اخبار سوريا
موقع كل يوم -تلفزيون سوريا
نشر بتاريخ: ١٦ نيسان ٢٠٢٥
في المجتمعات الخارجة من الحروب والانقسامات العميقة، يغدو تفكيك العنف الرمزي والاجتماعي ضرورة لا تقل أهمية عن إزالة ركام المدن. وإذا كان العنف السياسي يُعالج عبر الاتفاقيات، فإن العنف الشعوري، والعاطفي، والرمزي، لا يُشفى إلا بالحبّ، بوصفه ممارسة ثقافية تُقاوم الكراهية اليومية، وتستعيد العلاقة بالآخر خارج الثنائية السردية: المنتصر/المنهزم، الضحية/الجلاد.
في الحالة السورية، حيث تعايش الناس سنوات من الاقتلاع والخذلان والخسارة، أصبح الآخر؛ الجار، الشريك، القريب السابق، المختلف سياسياً أو دينياً أو عرقياً، مشروع تهديد أكثر من كونه مشروع علاقة. وحين تصبح الكراهية هي النمط العلائقي السائد، يغدو الحبّ فعلاً مقاوماً بامتياز، ومشروعاً ثقافياً في صميم فكرة التعافي المجتمعي.
لا يولد الإنسان وهو قادر على الحب، وفق إريك فروم، بل يتعلمه كما يتعلم أي مهارة أخرى. وفي مجتمع مأزوم مثل المجتمع السوري، يصبح غياب هذه المهارة الجماعية سبباً إضافياً في إطالة أمد الانقسام.
فالحبّ هنا لا يعني المشاعر الرقيقة أو النزعة الأخلاقوية الساذجة، بل هو فعل إرادي، يقوم على العناية، المسؤولية، الاحترام، والمعرفة.
وفي ضوء هذا التصور، يمكن لنا أن نعيد طرح سؤال مركزي؛ هل يمكن لمجتمع فقد أدوات التعبير العاطفي، أن يستعيد قدرته على العيش المشترك؟
'الاعتراف' كمدخل للعدالة الشعورية
إنّ الاعتراف يمثل جذراً أخلاقياً للعدالة، بحسب بول ريكور في مؤلفه 'الذات كآخر' لأن ذلك يفترض قدرة الفرد على التماهي مع ألم الآخر، والاعتراف بوجوده، وبحقه في السرد. من هنا، فإن المجتمعات التي تحرم مكونات منها من التعبير عن وجعها، أو تصف معاناتها بالكذب، أو تختصرها بخطاب تخويني، هي مجتمعات محكومة بإعادة إنتاج الكراهية من داخل نسيجها العاطفي.
في سوريا، هيمنت آليات النفي والاختزال والإنكار، فبات كل طرف يسرد ألمه بوصفه الأوحد، ويتعامل مع وجع الآخر كأداة في يد 'العدو'. وبدلاً من التأسيس لـ'حق متساوٍ في الحزن'، توزعت الآلام في خنادق منفصلة، وتحولت السرديات إلى جدران تعكس الصوت ذاته، لا جسوراً للحوار.
هل يمكن لمجتمع فقد أدوات التعبير العاطفي، أن يستعيد قدرته على العيش المشترك؟
ليس العنف في سوريا عنفاً مؤسساتياً فحسب، بل هو عنف موزع على اللغة، على النكات، على التعبيرات اليومية، على تعليقات فيس بوك، على الجملة العابرة التي تقولها أمّ عن ابنة حيّ آخر، أو عن طائفة أخرى. في تقرير لمنظمة 'International Alert' عام 2017 عن العنف العاطفي في المجتمع السوري بفعل الحرب، ظهر أن كثيراً من السوريين يشعرون بأنهم غير قادرين على الشعور بالثقة أو الراحة تجاه جيرانهم السابقين، حتى في المدن التي لم تشهد معارك مباشرة.
لقد خلّف التهجير الممنهج والانقسام الطائفي والعقائدي؛ الذي غذّاه نظام الأسد أساساً كأداة للسيطرة، أثراً نفسياً عميقاً في مفهوم 'العيش مع الآخر'، وغدت العودة إلى الأحياء المختلطة والزيارات العائلية العابرة للمناطق، وحتى الصداقات القديمة، محمّلة بالشبهة والارتباك.
يبدأ التعافي هنا من نقطة شعورية أولى أن نُقرر ألا نكره، ألا نعمّم، وأن نستعيد قدرتنا على الإنصات دون دفاعية.
الروابط الضعيفة... بنية الحياة اليومية المفقودة
في أطروحته الشهيرة عن قوة الروابط الضعيفة، يبيّن عالم الاجتماع مارك غرانوفيتر، أن النسيج الاجتماعي لا يتماسك عبر العلاقات العائلية المتينة أو الروابط الأيديولوجية الصلبة فقط، بل بالدرجة الأولى عبر تلك الروابط العرضية الهشة، كالعلاقة مع الجار، زميل الحافلة، صاحب الدكان، أو الزبون الذي نلتقيه دون معرفة اسمه.
تلك العلاقات الصغيرة التي تبدو غير مرئية، هي ما يصنع الحياة اليومية، ويخلق شعوراً عميقاً بالأمان، ويمنح الإنسان إحساساً بالانتماء دون شروط.
المطلوب في سوريا الآن إعادة الحياة للروابط العابرة التي كانت تمدّ المجتمع بنبضه، وأن نعود لننظر في عيون من نختلف معهم، أن نعيد السلام البسيط للشارع، أن نُبادل القلق بكلمة طمأنة لا بموقف.
في الأنثروبولوجيا الاجتماعية، يُقال إن المجتمعات لا تنهار حين تُسقط دولها، بل حين تفقد طريقتها في التعارف التلقائي، حين يتراجع 'الود العابر' لصالح التخندق. لذلك فإن الحبّ، حين يُمارَس كفعل ثقافي يومي، يكون محاولة لإعادة بناء النسيج الذي لا تراه الكاميرات؛
نسيج الود غير المشروط، والرغبة الصامتة بأن نعيش معاً دون أن نكون متطابقين.
يذكّرنا بيير نورا، في أطروحته عن أماكن الذاكرة، أن الذاكرة الجمعية ليست مجرد تجميع انتقائي للوقائع، بل هي صناعة انفعالية مشتركة، يتكوّن عبرها المعنى الجمعي من خلال التفاعل الشعوري مع ما مضى، إنها ليست فقط ما نتذكره، بل كيف نشعر تجاه ما نتذكره.
ولهذا، فإن فقدان 'الحزن المشترك' يعني في جوهره، فقدان القدرة على بناء جماعة متخيلة تعترف بعضها ببعض على مستوى الوجدان.
في سوريا، تُبكى الضحية إذا كانت 'منّا'، وتُسكت أو تُبرَّر أو تُخون إذا كانت 'من الجهة الأخرى'. في مثل هذا المناخ، لا يمكن إنتاج ذاكرة وطنية، بل فقط أرشيفات متجاورة لا تنظر إلى بعضها، ومآسي متزامنة لا تحزن معاً.
في علم النفس الاجتماعي، يُعتبر الحزن المشترك إحدى آليات التماسك الوجداني الأولي، فحين يبكي الناس معاً على خسارة لا تخصهم مباشرة، يتأسس بينهم شكل من الثقة الشعورية الصامتة، التي لا تحتاج إلى تطابق في الرأي أو الخلفية.
لذلك، فإن أن نحبّ المختلف، لا يعني أن نبرّر مواقفه، بل أن نعترف له بحقه في الحزن، في أن يكون له وجع، وأن نحترم وجعه دون أن نضعه على ميزان المقارنة. هذه هي اللحظة التأسيسية لأي وجدان جمعي سوري ممكن.
لا يمكن لسردية وطنية أن تتكوّن قبل أن تتكوّن لغة وجدانية واحدة تسمح للناس أن يحزنوا معاً دون أن يخونوا ماضيهم، ودون أن يُطلب منهم التخلي عن ذاكرتهم.
استعادة اللغة العاطفية... من الكراهية إلى الاعتراف
في قلب أطروحة هانا آرنت حول 'تفاهة الشر'، لا يظهر الشر بوصفه فعلاً شيطانياً، بل كنتاج لانعدام التفكير، لانعدام القدرة على رؤية الآخر ككائن إنساني. في مقابل هذا الانغلاق الذهني والأخلاقي، لا تطرح آرنت الحبّ كعاطفة رومانسية أو خلاص ديني، بل كـفعل مضاد لسلطة التنميط، وكقوة استثنائية قادرة على اختراق الجدران السردية التي تفصل بين البشر.
الحب، بهذا المعنى، لا يلغي الصراع، بل يضعه ضمن إطار إنساني تبادلي، يعيد للفرد صوته، لا بوصفه ناطقاً باسم جماعة أو سردية، بل بوصفه كائناً يحمل فرادته الداخلية، هشاشته، تردده، ورغبته في أن يُرى كما هو، لا كما يُفترض أن يكون.
فأن تحبّ الآخر في سوريا، لا يعني أن تتفق معه، بل أن تمتلك الشجاعة لتراه خارج 'بطاقته التعريفية السياسية أو الطائفية أو المذهبية أو العرقية'، أن تعترف له بحقه في الغموض، في التناقض، في اللاموقف المؤقت.
إن جوهر العنف كما تؤكد آرنت، يكمن في تحويل الإنسان إلى صورة، إلى رمز، إلى 'نقطة' في رسم بياني لأحد ما. والحبّ هنا ليس عاطفة ناعمة، بل تفكيك لآلة التصنيف، واستعادة للغة الفرد داخل الجماعة.
في علم النفس اللغوي، يشير جيمس بينبيكر إلى ما يُسمّى بـ'اللغة المُمكنِنة للعاطفة'، أي تلك الجمل التي تتيح للفرد أن يحرّر مشاعره المعقّدة دون أن يشعر بالتهديد. في سوريا، خسرنا هذه اللغة، أو على الأقل، لم نُدرّب عليها بما يكفي. كيف نتعلم أن نختلف دون أن نكره؟ وأن نلوم دون أن نُحطّم؟ وأن نعاتب دون أن ننفي الآخر من وجوده؟.
تربية العاطفة تبدأ من تربية اللغة، ومن منح الكلمات مساحة آمنة لتخرج دون أن تُقابل بالقسوة أو التهكم، لأن الكراهية في نهاية الأمر، ليست فقط نتاجاً لتضاد القيم أو النزاع، بل أحياناً هي نتاج عجزٍ لغوي عن التعبير السليم عن الوجع.
السؤال الذي يطرح نفسه اليوم، وسط الصمت السوري المتراكم، ليس فقط: هل نروي ما حصل، بل هل نسمح لأنفسنا بأن نُروى، وهل نحتمل وجود أكثر من سردية واحدة دون أن نرتبك أو نخوّن أو نكفّر؟
هل يمكن للسوريين أن يؤسسوا فضاءات محكية، شفوية، مكتوبة، لحكايات متوازية لا تتصارع، بل تتجاور؟ أن نعترف بالحكاية المخالفة لا بوصفها تهديداً، بل كجزء مكمّل للوحة لا تكتمل إلا بتعرجاتها؟
أن نحبّ المختلف لا يعني تبريراً ولا تنازلاً، بل اعترافاً بإنسانيته، وبحقّه في أن يكون، أن يشعر، أن يسرد. إن من حق الشعب، بوصفه جغرافيا الألم والتعدد، أن يسعى لتخليق حبّ جمعي لا يطمس الفروق، بل يسكنها بلغة أقل فزعاً، وأكثر رحابة.
فربما يكون الحبّ، لا كحالة رومانسية، بل كممارسة ثقافية، هو ما تبقى لنا لنبدأ من جديد.