اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ١٤ تموز ٢٠٢٥
قاد الاحتلال خلال العامين الماضيين ومنذ انطلاق عملية الطوفان عمليات عسكرية هستيرية صُنّفت في القانون الدولي أنها حملة إبادة جماعية ضد قطاع غزة، في سلوك عسكري مندفع من تقييم منظومات الاحتلال وقيادته لعملية الطوفان أنها تستهدف وجود دولة الكيان لا من حيث الضربة العسكرية وحجمها، بل من حيث هدمها لواحدة من الأسس الإستراتيجية التي تقوم عليها دولة الاحتلال في ظل بيئة جغرافية معادية تحيطها من كل الاتجاهات، وهي نظرية الردع التي حرص مؤسسو الكيان على بنائها قبل تأسيس الكيان وتزامنًا مع إعلان نشأته والتي أصابها الطوفان في مقتل.
تُعد نظرية الردع لدى الكيان حجر الزاوية في العقيدة الأمنية منذ تأسيسه والتي يمكن تلخيصها بأنها الطريقة التي ستمنع الأعداء المحتملين من شن هجمات ضد 'إسرائيل' مستقبلًا من خلال فرض معادلة شن الهجوم المضاد الساحق وغير المتناسب على أي جهة تبادر في مواجهة الاحتلال، بما يفضي لترسيخ قناعة لدى كل المحيط الجغرافي للكيان بأن 'تكلفة الهجوم ستكون أكبر بكثير من أي مكاسب محتملة'.
يحاول هذا المقال أن يرسم صورة مجملة لطبيعة الإجراءات التي بادر بها الاحتلال والتي غلبت عليها سمة ادعاء الجنون في الحرب لتحقيق أقصى مدى في كيّ الوعي وكسر فكرة المقاومة ونزع إرادة القتال في هذا الجيل وفي الأجيال التالية له.
أولًا/ شكل العدوان على قطاع غزة:
حاولت القيادة السياسية لدى الاحتلال خلال أول شهر من الحرب تأمين أعلى سقف سياسي ممكن للتغطية على الجرائم والفظائع التي سيرتكبها جيشهم في القطاع بسبق الإصرار والتقصد، حيث اعترض نتنياهو صراحةً على محاولة إدارة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن لعقلنة شكل الحرب على غزة ورفض بالمطلق أي محاولة لتقييد شكل وحجم العمل ضد البيئة المدنية المعقدة في القطاع، وهو ما أعلنه بايدن رسميًا إثر رفض نتنياهو رسالته التي قال فيها: 'لا يمكن لإسرائيل أن تستخدم القصف السجادي في بيئة غزة'.
وفي الأثناء التي بدأ فيها جيش الاحتلال حملته الجوية التمهيدية للغزو البري اندلع خلاف بين نتنياهو ورئيس أركان جيش الاحتلال حول عدد الأهداف التي يمكن قصفها في اليوم الواحد، فأصدر نتنياهو توجيهًا بمضاعفة حجم الأهداف اليومية بغض النظر عن حجم الخسائر في البيئة المدنية المحيطة، ومن هنا انطلق الجيش في عمل يشابه عمل العصابات التي لا تعمل بمنهجية ولا أساس وصبّ كل أنواع الحمم فوق صدور أطفال غرة ونسائها ورجالها، وانطلق في حملات إبادة للبشر والحجر انفلتت معها كل القواعد والنظم والقوانين التي يمكن أن تضبط شكل الصراع.
وبالرغم من الضرر الكبير الذي أصاب الجيش وسيصيبه إستراتيجيًا في مستقبل هذا الصراع إثر هذا الانفلات، إلا أن من يقود المشهد لدى الاحتلال رأى في ذلك وجهًا مقبولًا ومطلوبًا في خضم حرب بهذا المستوى، باعتبار ما سيحصل في غزة هو نقطة انطلاق لترميم نظرية الردع على مستوى المنطقة.
ثانيًا/ تطوير وتوسيع رقعة الصراع:
شكلت مجريات الأحداث في قطاع غزة نقطة الارتكاز الأبرز لجيش الاحتلال في هذه الحرب، إلا أنها كانت تصل عادة لمراحل من تكرار الأدوات والدوران في حلقة مفرغة تقضم مزيدًا من بنيان غزة وتهلك به حرثها ونسلها إلا أنها راوحت مكانها بالنسبة للاحتلال، ففي تلك المراحل قفز الاحتلال عدة مرات لمعالجة تهديداته المستقبلية على مبدأ حسم المواجهة والصراع، وتصفير كل التهديدات العسكرية المعادية للاحتلال، فبدأ إجراءاته بالضفة الغربية وشن عملية عسكرية استهدفت مخيماتها، ثم بدأ بتسخين الأوضاع على الجبهة الشمالية مع حزب الله وصولًا لشن حرب مباغتة استمرت قرابة شهرين.
وفي استكمال لإنهاء التهديد شمالًا إثر سقوط نظام الأسد في سوريا واصل الاحتلال 'حفلة الجنون' واحتلّ أجزاء واسعة من الجنوب السوريّ وانقلب على اتفاقية فض الاشتباك مع سوريا تزامنًا مع حملات قصف جوي استباح فيها سوريا من شمالها إلى جنوبها بذريعة تحييد قدرات جيش الأسد ومنع وقوعها في أيدي جماعات جهادية قد تشكل تهديدًا مستقبليًا على الكيان.
وقد قيّم الاحتلال بنوع من الراحة والإيجابية ما انتهت إليه الحملتان في لبنان وسوريا في ظل السرعة النسبية التي اتسمت بها هذه الحملات، ما مهد لاحقًا لبدء إنضاج رؤية وتصور خاص بإنهاء التهديد الإيراني، فبادر لشن حرب جديدة مع طهران افتتحها بغارات واسعة استهدفت العصب القيادي لدى النظام الإيراني سعيًا لإسقاطه وإحلال نظام جديد يختلف كليًا في الأولويات والأهداف إلا أن هذه الحرب فشلت في تحقيق معظم نتائجها الكبرى.
تقف قيادة الاحتلال اليوم على مفرق طرق مهم وحساس فهي بين أن تواصل حملة ادعاء الجنون واجترار مزيد من التصعيد العسكري في المنطقة برفض إنهاء الحرب على قطاع غزة ومحاولة إعادة فتح جولات جديدة من القتال مع إيران بدعم أمريكي أكبر، أو أن تذهب لمسار 'عقلنة' ادعاء الجنون واستثماره في اتفاقيات تطبيع في المنطقة تضمن لهذا الكيان فقاعة جديدة من وهمٍ مؤقت في السيادة والهيمنة على المنطقة والإقليم.
ولربما تكشف بعض الأحداث الأخيرة عن نتائج حفلات الهستيريا والجنون التي ادعاها الاحتلال في مواجهة أعدائه، فمن المعقول أن تردع هذه الأشهر الطويلة من القنابل والدماء كيانات كبيرة مردوعة منذ عقود خلت لم تكن تخطط للمواجهة مع هذا الكيان أصلًا، ولكنها حتمًا لم تزد أبناء فكرة المقاومة في جميع أماكن وجودهم إلا دافعية أكبر وأسبابًا أكثر لمواجهة هذا الكيان بكل الأساليب والطرق حتى وإن مالت الظروف لغير صالحهم حاليًا.
فما هو نفع نظرية الردع أمام مقاوم خانيونس ومقاتل جباليا ومجاهد بيت حانون وثائر الضفة وحرّ لبنان، هؤلاء جميعًا لو كان لديهم سبب واحد لقتال الكيان قبل السابع من أكتوبر فهم اليوم يملكون ألف سبب لقتالها، ولربما كان الدرس الأهم الذي أخذوه من كل هذه الدموية والإجرام الذي ارتكبه العدو بحقهم هو ضمان أن تكون وثبتهم القادمة -مهما طال زمانها- هي الضربة القاضية لوجود هذا الكيان المُصنّع والمجمّع من شتات الأرض وألا يُمنح فرصة البقاء للرد عليها.