اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٢٢ نيسان ٢٠٢٥
في غرفة التبرع بالدم داخل المستشفى الميداني لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني في منطقة السرايا وسط مدينة غزة، جلس الشاب محمد نصر (23 عامًا) على المقعد المعدني المهتز، في حين كانت ذراعه اليمنى ممدودة وموصولة بأنبوب بلاستيكي رفيع. كان يحاول أن يبدو متماسكا، لكن قطرات العرق على جبينه واصفرار وجهه فضحا حالته.
'كل ما أكلته اليوم نصف رغيف خبز مع القليل من الزيت'، يقول نصر لصحيفة 'فلسطين' بصوتٍ واهنٍ بينما تغالب جسده رعشة خفيفة 'أردت أن أتبرع بدمٍ لإنقاذ مصاب، لكن يبدو أنني أنا من بحاجة للدم الآن'.
بعد دقائق فقط من بدء التبرع، شعر محمد بدوار شديد وضيق في التنفس، فتوقفت الممرضة فورًا عن السحب وبدأت إجراءات إسعافه. 'ضغطه كان 80 على 50، والهيموغلوبين بالكاد يصل إلى 10'، قالت الممرضة، وهي تضع قطعة قطن مبللة بالكحول على جبهته.
نصر، وهو نازح من حي الشجاعية ويعيش منذ أربعة أشهر في خيمة بمنطقة الدرج شرق غزة، لا يملك ثمن الطعام. يقول: 'منذ نزحنا، لم أتناول أي وجبة دسمة، ولا حتى بيضة. لم أعد أشعر بالجوع، بل أشعر أن جسدي يتآكل ببطء'.
لكن رغم هذا الضعف الشديد، أصرّ على التبرع بدمه حين سمع نداءً عبر مكبرات الصوت في الحي يطلب من المواطنين التوجه للمستشفى لإنقاذ الجرحى 'لم أمت تحت القصف، فليكن دمي فرصة لحياة آخرين'.
أمام غرفة التبرع، جلست والدته تنتظره ووجهها مشدود بالقلق. قالت لنا: 'هو عنيد. قلت له جسدك منهك، لكنه أصر وقال: إذا متُّ متبرعًا خير من أن أموت جائعًا بلا أثر'.
'نضطر لرفض متبرعين'
يوضح د. خالد العشي، طبيب أمراض الدم في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، أنّ نقص الغذاء المزمن الذي يعاني منه سكان غزة ينعكس بشكل مباشر على قدرة المواطنين على التبرع بالدم، بل وعلى أهليتهم الطبية لذلك.
ويقول العشي لـ'فلسطين أون لاين': 'نحن نقيّم المتبرع قبل بدء السحب، وكثيرًا ما نضطر لرفض طلبات التبرع بسبب انخفاض مستويات الهيموغلوبين أو ضغط الدم الشديد الانخفاض. لقد باتت أجساد الناس مرهقة، والأنيميا باتت جماعية'.
ويضيف بأسى: 'ذات يوم، جاءنا شاب نحيل يحمل بطاقة هوية بين أصابعه المرتجفة، ويقول: (خذوا دمي لأني لا أملك مالا ولا خبزا). لكن التحاليل أظهرت أن نسبة الهيموغلوبين لديه 8.5، وهو معرض للإغماء بمجرد سحب كمية بسيطة'.
ويؤكد العشي أن الأمر لا يتعلق بحالة فردية، بل بظاهرة متفاقمة تهدد مستقبل القطاع الصحي: 'نحن بحاجة ماسة للدماء، خصوصًا مع تصاعد عدد الإصابات جراء القصف اليومي، لكن الخزان البشري ذاته ينهار. نحن أمام كارثة صحية مزدوجة: حاجة ماسة للدم، وانهيار في قدرة الناس على منحه'.
كارثة إنسانية غير مسبوقة
وقال إسماعيل الثوابتة، مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي في غزة لصحيفة 'فلسطين'، إن القطاع يواجه كارثة إنسانية غير مسبوقة في ظل استمرار العدوان والحصار، مشيراً إلى أن مؤشرات سوء التغذية تتصاعد بشكل مقلق، لا سيما بين الأطفال.
وأوضح أن أكثر من 60 ألف طفل دون سن الخامسة يعانون حالياً من سوء تغذية حاد، في حين يواجه نحو 133 ألف مواطن مرحلة حرجة من انعدام الأمن الغذائي، وسط تعطل نحو 15% من مراكز علاج سوء التغذية في القطاع نتيجة الاستهداف المباشر أو نقص المستلزمات.
وأضاف الثوابتة: 'ما يزيد عن 1.8 مليون مواطن يعيشون اليوم تحت مستويات مرتفعة من انعدام الأمن الغذائي، في وقت يشهد فيه القطاع تراجعاً حاداً في حجم المساعدات الإنسانية، وتأخيراً متعمداً في إدخال الغذاء، ما يهدد بانفجار الوضع الصحي والمعيشي بشكل كامل'.
وأكد أن هذا الواقع يستدعي تحركاً دولياً فورياً للضغط من أجل فتح المعابر، وضمان تدفق الغذاء والدواء إلى السكان المحاصرين، محذراً من أن استمرار الوضع على ما هو عليه يعني تعريض حياة مئات الآلاف من الأطفال والمرضى للخطر المباشر.