اخبار فلسطين
موقع كل يوم -وكـالـة مـعـا الاخـبـارية
نشر بتاريخ: ٣٠ أيلول ٢٠٢٥
الكاتب: مروان أميل طوباسي
حين تستدعي الذاكرة التاريخ إلى الحاضر ، فإن المقارنة لا تكون مجرد استذكار ، بل لفهم ما يُراد إعادة إنتاجه في ظروف جديدة . هنا، تبرز اتفاقية فاركيزا في اليونان عام ١٩٤٤ ، بوصفها تجربة غنية بالدروس لما يُطرح اليوم من خطة أميركية اسرائيلية لإعادة صياغة المشهد الفلسطيني في غزة وفي كامل أراضي دولة فلسطين المحتلة.
بعد انسحاب الأحتلال النازي على اثر دور المقاومة الشعبية في تحرير معظم الأراضي اليونانية ، وجدت البلاد نفسها أمام تسوية فرضها الحلفاء خصوصا بريطانيا، التي رأت في الاتفاق وسيلة لتقويض القوة الشعبية وتثبيت عودة النخب الموالية للغرب وتمكين دورها بالمنطقة . الاتفاق نص على حل المقاومة الشعبية وتسليم السلاح مقابل الاعتراف بالحريات السياسية . هذا التدخل العسكري البريطاني لاحقا أدى إلى حرب أهلية مدمرة . فقد رفض قائد المقاومة الشعبية عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اليوناني ، 'أريس فيلوخيوتيس'، الاتفاق لأنه اعتبره خيانة لمبادئ التحرر الوطني ، فواصل القتال حتى استُشهد ، واضطر بعدها الحزب الشيوعي إلى عقود طويلة ليعيد الاعتبار لموقفه الثوري الواقعي بعد ان كان قد اتخذ قرارا باستبعاده من الحزب .
اليوم ، ومع ان غزة ما زالت تشهد محرقة القرن ٢١ ، يعيد ترامب ونتنياهو اصحاب فكر التطهير العرقي إنتاج مشهد مشابه . جاء المؤتمر الصحفي الأخير أمس بينهما كشف عن تشكيل ما سُمّي بـ'مجلس سلام غزة'، ومنحه صلاحية إعلان حكومة فلسطينية مستقلة للقطاع برئاسة ترامب ، بالتوازي مع إعطاء تفويض مطلق لمجرم الحرب نتنياهو باستخدام القوة ضد شعبنا المثقل بالجراح إذا رُفضت الخطة من اجل استمراره بتدمير غزة . إنها صيغة تُشبه اتفاقية فاركيزا باليونان ، إطار سياسي يُصنع خارج الإرادة الوطنية ، يمنح شرعية بديلة مصطنعة، ويضع القوى الفلسطينية أمام خيار التسليم أو المواجهة بالقوة العسكرية من جهة ، والأستبعاد السياسي من جهة اخرى .
اليوم فان الخطر مزدوج ، فمن جهة، تهميش منظمة التحرير كممثل شرعي للشعب الفلسطيني وصاحبة الولاية السياسية والجغرافية ، وإعادة تعريف الشرعية الفلسطينية من الخارج عبر قوى مدعومة أمريكيا وإسرائيليا وربما من البعض الإقليمي الذي لم يتمسك يوما بقراراته ولم يتخذ موقفا جرئياً في مواجهة فكر الإستعمار فابقى نفسه ذليلا تابعا دون ادراك مصادر قوته امام ترامب . ومن جهة أخرى ، إعادة تدوير مشاريع 'السلام الاقتصادي'، بما يعني فصل غزة عن عمقها الفلسطيني واستبدال القضية الوطنية بمقاربة إدارية–إنسانية بإشراف بلير مدمر العراق .
اليوم ، يجب أن ندرك أننا أمام مرحلة فلسطينية مفصلية جديدة ، حيث تحاول القوى الدولية والإقليمية التي شاركت بلقاء ترامب قبل ايام طي صفحة التاريخ الطويل للثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير كحركة تحرر وطني ، وشطب أي دور لحماس في إدارة غزة رغم البحث معها بمفاوضات عن دور جديد يتماشى مع الاشتراطات ، وكذلك تهميش السلطة الوطنية تحت شعار 'تجديد' أو 'إعادة تأهيل' ، والتي لم يكن بتقديري مطلوبا منها الأسراع في الترحيب بخطة ترامب .
ومن هنا، فأن المصلحة الوطنية لشعبنا تقتضي وحدة فلسطينية حقيقية لا تستثني احد بعد ضرورة وعي الجميع باهميتها وباهمية تنفيذ مقررات جلسات الحوار الوطني السابقة التي وقع عليها الجميع ، تبدأ فورا بوقف المفاوضات المنفردة مع الأمريكان من جانب حماس ، وبتشكيل حكومة توافق وطني أو إنقاذ وطني عريضة تقوم بالمهمة ، وتعزيز برنامج سياسي جامع في إطار منظمة التحرير التي تحتاج بقرار وطني مستقل الى التفعيل والتجديد والأستنهاض الديمقراطي يقطع الطريق على مشاريع الاحتواء والتطويع والتفتيت والتجزىة والتوسع الكولنيالي من خلال الأسراع في محاولات تنفيذ مشروع أسرائيل الكبرى وفق واقع الضم على الارض ، ويحول دون إعادة إنتاج السيطرة الخارجية على الشعب الفلسطيني .
صحيح ان الأولوية العاجلة اليوم هي الإنسان الفلسطيني في غزة ووقف المجزرة والمحرقة المستمرة ، والتخفيف من معاناة شعبنا الذي صمد وقدم التضحيات ورفض التهجير حتى في ظل التجويع .
إلا أن ذلك لا يمكن أن يكون ذريعة لتقويض السيادة الوطنية أو إنشاء حكومة فلسطينية لغزة 'مُفصلة على المقاس الامريكي الأسرائيلي'. المطلوب اليوم هو تعزيز الوحدة الوطنية الواسعة ، إعادة الاعتبار لمفهوم ومبدأ القيادة الفلسطينية المستقلة والجامعة وفق التقاليد التاريخية لثورتنا المعاصرة وتراث الفدائيين ، ترشيد السلطة بشفافية عالية بعيدا عن اشكال الفساد الذي بات العالم يراه بامتعاض وتقديم ادوات وطنية مخلصة تُقربنا من الناس ولا تُبعدنا عنها لنستعيد مكانتنا المطلوبة لاستكمال التحرر ، وتمهد بشكل سريع للانتخابات العامة الرئاسية والبرلمانية بموازنة عقد اجتماع طارئ للمجلس الوطني أو المركزي لمنظمة التحرير بعضوية تبتعد عن مراكز النفوذ والمحاصصات وبمشاركة كافة الفصائل التي يجب ان تدرك المصلحة والمسؤوليات التاريخية ، من اجل مراجعة نقدية جادة لمسار الحركة الوطنية الفلسطينية منذ أتفاق أوسلو ومن اجل الوصول بارادة سياسية لرؤية واضحة كفاحية عقلانية وديمقراطية عابرة للفصائلية ، تعزز دور الشباب والمرأة والمستقلين الوطنيين والمجتمع الاهلي والكفاءات المختصة ، حتى تبقى جذوة السردية الفلسطينية التاريخية وثوابتها حية ، وبما يمنع تكرار مأساة فاركيزا اليونانية بنسخة فلسطينية مأساوية .
وعلى حماس وكل فصائل المقاومة في غزة أن تدرك اليوم أن الانخراط في هذا المسار الوحدوي ليس خيارا أو ترفاً وان يبتعد الجميع عن النظر الامور من ناحية فية ضيقة ، بل بمسؤولية وواجب وطني تقتضيه مصلحة شعبنا وقضيتنا التحررية بما يتطلب التوقف عن المفاوضات المنفردة وفك الارتباط بالجهات الخارجية والتخلص من اشتراطات قد إعاقت سابقا مسار مضمون التحرر الوطني من الأحتلال الإستعماري والوحدة الوطنية التي وصفها القائد المناضل مروان البرغوثي بأنها قانون الأنتصار ، حال شروط انتصار كافة حركات التحرر العالمية . اشتراطات كانت قد فُرضت علينا فقط مقابل وعود سرابية واهية لم تثمر عن شيئ ولم تقدم شيئا في مسار إنهاء الأحتلال .
كل ذلك اصبح اليوم ولو متاخرا لضرورات وجودية وطنية لتأكيد القرار الوطني المستقل وحماية حقوق شعبنا الفلسطيني من أي مشاريع خارجية تهدف إلى التفتيت أو الإخضاع او الاحتواء بمسميات مستحدثة باستغلال تاثير جهات خارجية على اطراف فلسطينية بعيدا عن حقوقنا غير القابلة للتصرف وبالمقدمة حق تقرير المصير والأستقلال الوطني وحل قضية اللاجئين منها وفق المقرات الأممية والقانون الدولي الذي انتهكته بوضوح خطة ترامب ، وضمان ألا تُترك الساحة للمغامرين والمطبعين والمُصنعين الدوليين ليعيدوا كتابة تاريخنا من جديد وفق مصالحهم .