اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ١٧ تموز ٢٠٢٥
على أطراف مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، خيّم الليل بثقله على عائلة نصار من جديد، لكنه هذه المرة لم يترك خلفه سوى الركام والدخان والدموع. في ساعات المساء المتأخرة من يوم أول من أمس، ارتكبت طائرات الاحتلال الإسرائيلي مجزرة جديدة، لتُضاف إلى سلسلة طويلة من الدماء التي لم تجف بعد في شوارع المخيم وأزقّته المكتظة بالنازحين.
لم يكن الشهيد محمد نصار يتوقع أن تدوّن صفحته على 'فيسبوك' قبل أقل من شهرين وصيته الأخيرة. ففي نهاية مايو الماضي، كتب بيد مرتعشة تحت وقع القصف الأول على بيته: «حسبنا الله ونعم الوكيل.. استشهاد أمي الغالية أم هاني نصار، وزوجة أخي أم العبد وأبناؤها الأربعة (جنى، مها، رُبا، وعبد الرحمن)، وأبناء أخي زكريا (حمزة ومالك)، واستشهاد زوجة خالي أم محمد، وابنها أحمد وزوجته وأبناؤه الأربعة».
كتبها محمد بكلمات قصيرة، محمّلة بكل وجع القلب، ثم حاول أن يُلملم ما تبقى من عائلته ليحتمي بهم ويُكمل ما بقي من أيامه تحت القصف والجوع والدمار.
لكن لعنة الحرب لاحقته إلى عمق بيته. لم يمنحه الاحتلال مهلة للشفاء من مصابه الأول، فجاءت الغارة الثانية أكثر قسوة ووحشية. هذه المرة، لم تُبقِ طائرات الموت أحدًا من عائلته.
ارتقى محمد مع زوجته وبناته الأربع، اللواتي كُنّ جميعًا حافظات لكتاب الله، يملأن البيت بتلاوة القرآن بين جدرانه التي صارت اليوم كومة من الركام. وحده أخوه زكريا بقي حيًا ليحمل هذا الحزن كله على كتفيه.
في لقاء قصير مع زكريا، بدا صوته مبحوحًا، تخنقه الدموع التي لم تجف بعد، وقال: «قبل أقل من شهرين فقدت أمي وأولادي وإخوتي وأبناءهم في قصف أول، وقلت حينها: لعلّ الله يلطف بنا. لكن الاحتلال لم يشبع من دمنا.. محمد كان يحتمي بزوجته وبناته، حاول أن يبدأ من جديد في خيمة صغيرة قرب ركام البيت الأول.. لكنهم قصفوه مرة أخرى ليؤكدوا للعالم أنهم لا يفرّقون بين طفل ولا شيخ ولا حافظ للقرآن».
زكريا، الذي فقد أمه وإخوته وأبناءهم تباعًا منذ بدء الحرب، يقف اليوم وحيدًا أمام فاجعة جديدة. لا يدري كيف يدفن كل هذا الثقل في صدره، ولا يجد مكانًا يضم قبورهم وسط الدمار.
يقول لصحيفة 'فلسطين': «كان محمد شقيقًا وصديقًا وسندًا.. كان يحلم أن يرى بناته يكبرن ويحملن كتاب الله في صدورهن. لم تكن البنات يذهبن إلى مدارس حفظ القرآن إلا وهنّ يرددن آيات الرحمة، ولم يعرفن يومًا في حياتهن سوى الابتسامة».
ويستذكر زكريا كيف كان محمد يقف بين ركام المنزل الأول الذي دُمّر قبل أسابيع، يلتقط بقايا صور عائلته من تحت الحجارة. وكانت صورة أمه 'أم هاني' أكثر ما يؤلمه.
«قال لي يومها: والله يا زكريا دمنا رخيص عندهم. نحن لسنا أرقامًا.. نحن أمهات وآباء وأطفال وأحلام صغيرة.. لكن من سيسمعنا؟».
في مخيم الشاطئ، صار بيت نصار — أو ما تبقى منه — شاهدًا على مجزرتين لا يفصل بينهما سوى أسابيع. يروي الجيران أن محمد لم يكن يحمل سلاحًا ولا أي نشاط عسكري، كان موظفًا بسيطًا يحاول إعالة أسرته الممتدة، ويغيث من حوله من أقاربه ونازحي المخيم.
ما يزيد من مرارة القصة أن الاحتلال — كما يرى سكان المخيم — تعمّد استهداف العائلة مرتين، ليقضي على ما تبقى من نسلها.
يقول زكريا: «كل بيت في المخيم صار له نصيب من الدم، لكن بيتنا كُتب عليه أن يُمحى من السجل المدني، فلا أم ولا أب ولا أطفال بقوا».
اليوم، يجلس زكريا وحيدًا أمام ركام بيته وبيت أخيه، يتلفت حوله فلا يرى سوى حجارة مقلوبة، ودماء متناثرة، وألعاب طفلاته الصغيرات.
بين يديه بقايا مصحف كانت بنات أخيه يقرأن فيه قبل أيام. يقلب صفحاته ويهمس: 'يا رب، هذا بيت حفظة قرآن.. هذا بيت طاهر.. فلا تضيّعنا بعدهم'.
تُضاف مجزرة عائلة نصار إلى سجل الاحتلال الأسود، الذي ما يزال منذ أشهر طويلة يحصد الأرواح دون تمييز. وكما يقول زكريا: 'لا أحد ينجو هنا.. الكل مشروع شهادة. لكن عزائي أن محمد وعائلته ارتقوا وهم يحملون كتاب الله في صدورهم، وهذه شهادة نحسبها عند الله أعظم من كل شيء'.
وبينما يغادر زكريا المكان، لم ينس أن يرفع يديه للسماء، يتمتم بدعاء قصير: 'اللهم تقبّلهم عندك شهداء.. واجعلني معهم'.