اخبار فلسطين
موقع كل يوم -وكـالـة مـعـا الاخـبـارية
نشر بتاريخ: ١٠ تشرين الثاني ٢٠٢٥
الكاتب: ربحي دولة
“يريدونني أسيرًا أو طريدًا أو قتيلًا، وأنا أقول لهم: شهيدًا، شهيدًا، شهيدًا.”
ياسر عرفات
تمرّ السنوات، وتبقى فلسطين تستعيد وجهها في ملامح رجلٍ رحل جسدًا، وبقي رمزًا لا يموت. في كلّ تشرين الثاني، تهبّ الذاكرة الفلسطينية والعربية برائحة الأرض وصوت الكوفية، وتستحضر سيرة القائد الذي لم يكن زعيمًا فحسب، بل حكاية وطنٍ كامل — ياسر عرفات، “أبو عمار”، الذي اختصر مسيرة النضال الفلسطيني بكلماته، وصموده، ووصيته التي أصبحت نبراسًا للأجيال.
وُلد ياسر عرفات في القدس عام 1929، وعاش طفولته في زمنٍ عصيب حمل فيه الفلسطينيون مرارة النكبة وضياع الوطن. منذ شبابه، كان يدرك أن الهوية لا تُستعاد إلا بالنضال، فأسّس مع رفاقه حركة “فتح”، ليعيد للشعب الفلسطيني صوته وكرامته، ويعلن بداية مرحلة جديدة عنوانها: الثورة طريق العودة.
وفي رحلته الطويلة بين الخنادق والمنابر، جمع عرفات بين المقاتل والدبلوماسي، بين بندقية الثائر وغصن الزيتون. ففي جنيف عام 1974، ألقى خطابه الشهير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قائلاً:
“جئتكم أحمل غصن الزيتون بيد، وبندقية الثائر باليد الأخرى، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي.”
بهذه الكلمات، نقل عرفات القضية الفلسطينية من الخنادق إلى العالم، ومن العزلة إلى الاعتراف، رافعًا صوت المظلومين أمام عدالةٍ دولية صمّت آذانها طويلاً.
ثم جاءت ملحمة بيروت عام 1982 لتكتب إحدى أعظم صفحات الصمود. صمد عرفات ورفاقه أسابيع طويلة تحت القصف الإسرائيلي، رافضًا الاستسلام أو المغادرة المهينة. وعندما اضطر إلى الخروج من المدينة، سُئل: “إلى أين أنت ذاهب يا أبا عمار؟” فأجاب بثباتٍ سيظل خالدًا في التاريخ:
“إلى فلسطين.”
كلمة واحدة، لكنها كانت وعدًا ووصية، طريقًا لا رجعة عنه.
وفي عام 1988، من قاعة المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر، أعلن ياسر عرفات استقلال دولة فلسطين، فاتحًا صفحة جديدة من النضال السياسي، ومؤكدًا أن الحلم الفلسطيني لا يُمحى بالاحتلال ولا بالمنفى. وبعد سنواتٍ من الكفاح والمفاوضات، عاد إلى أرض الوطن عام 1994 ليؤسس السلطة الوطنية الفلسطينية، محققًا حلم العودة الأول بعد عقودٍ من التشرد.
وفي نهاية حياته، عاد الحصار ليحاوطه من جديد، وهذه المرة في مقر المقاطعة برام الله. كان مريضًا، لكنه لم يضعف، محاصرًا لكنه لم ينكسر. ظلّ يطلّ من شرفة المقاطعة على شعبه، مؤمنًا أن المقاومة قدر، وأن الكرامة لا تُساوم. وهناك، قال كلماته الأخيرة التي أصبحت وصيته الخالدة:
في الحادي عشر من تشرين الثاني عام 2004، رحل أبو عمار، لكنه لم يغادر الوعي الجمعي الفلسطيني. بقي صوته في الأناشيد، وصورته في البيوت والمخيمات، وكوفيته على رؤوس الأجيال الجديدة التي لم تراه، لكنها تؤمن بأنه الطريق والرمز.
واليوم، بعد أكثر من عقدين على رحيله، ما زالت وصيته حاضرة في شوارع فلسطين، تتجسد في صمود الأسرى، وفي حجارة الأطفال، وفي رايةٍ لا تنزل عن الساريات. كلّ من يقاوم، كلّ من يحلم، كلّ من يهتف باسم فلسطين، إنما يردد وصيته الأخيرة، ويعيد وعده الأبدي بأن هذه الأرض تستحق الحياة.
لقد كان ياسر عرفات أكثر من قائدٍ في التاريخ؛ كان التاريخ نفسه يمشي بخطاه. ترك وصيته، وترك خلفه شعبًا يقولها اليوم كما قالها هو ذات يوم وهو يغادر بيروت:
“إلى فلسطين…”
٠ كاتب وسياسي فلسطيني

























































