اخبار فلسطين
موقع كل يوم -وكـالـة مـعـا الاخـبـارية
نشر بتاريخ: ٢٧ أب ٢٠٢٥
الكاتب:
عيسى قراقع
أنا الآن جثة في غزّة.
لكنني ما زلت أتكلم.
غريبٌ هو الموت في غزّة، ليس نهاية، بل شكل آخر للحياة. هنا، لا تموت الأجساد دفعةً واحدة، بل تموت مرّات: مرّة حين يسقط الصاروخ، ومرّة حين يُكذّب العالم الخبر، ومرّة حين يُدفن الطفل بلا اسم، ومرّاتٍ كثيرة حين لا يهتزّ ضمير.
أنا جثّة،نعم، لكنني لست بلا صوت، أتكلم مع نفسي، مع شظاياي، مع أطرافي التي تناثرت كذكريات قاسية، أتكلم لأن الصمت خيانة، ولأن السكوت هو موتٌ أكثر بشاعة من هذا الذي تعلّق بي.
كنت أمشي في شارع صلاح الدين، وأحمل كيس خبز. لم أكن مقاتلًا، لم أكن سياسيًا، كنت فقط إنسانًا يريد أن يحيا. لكن في غزّة، الرغبة في الحياة جريمة، والوقوف على قدميك فعل مقاومة.
جاءني الموت من الأعلى، من طائرات تعرفنا بالاسم، تُبرمج على أجسادنا لا على خرائط. الموت في غزّة دقيق، محسوب، بارد. موتٌ تكنولوجي، تُجريه 'ديمقراطيات متقدمة' بلمسة زر، قالوا إنني 'أضرار جانبية'، لكنني كنت عالمًا كاملاً، كنت حلمًا صغيرًا، ووجعًا أكبر من كل بيانات الأمم المتحدة.
أنا جثة الآن، وأتحدث إلى نفسي، أسألني: هل ستراني أمّي؟ هل ستعرفني من بين الركام؟ هل ستبحث عن قدمي المبتورة، أو سترفع رأسي وتغني لي كما كانت تفعل وأنا طفل؟
أخاطب العالم:
لماذا أنتم مرتاحون؟ لماذا تأكلون بهدوء بينما نتفتت؟ لماذا تقرؤون هذا النص وكأنه خيال، بينما أنا هنا، ممدّد تحت غيمة من الدخان؟ هل لأنني فلسطيني؟ أم لأنني من غزّة؟ أم لأن موتي لا يشبه موتكم، فتعجزون عن الشعور بي؟ أنا جثة، نعم، لكنني أحمل أسئلة الأحياء، أطرحها عليكم، على من يبرر، ومن يصمت، ومن يوازن بين القاتل والضحية.
أليس لي اسم؟
أليس لي وطن؟
ألم أكن أكتب، أضحك، أغضب، أحب، أخاف، أتعلّم؟
ألم أكن مثلكم، قبل أن تُفتّتني قذيفة؟
لا تنتظروا موتكم كي تفهموا موتي.
ولا تنتظروا جثثكم كي تسمعوا صوتي.
أنا الآن جثة في غزة، لكنني أتكلم، وكل جثث غزّة تتكلم، انا جثة، ربما طفل اوامراة، ربما شاب اومسعف، ربما عجوز قتل على طابور الطحين، ربما شاعر دفن في تابوت القصيدة، ربما صحفي فجروا في عينيه عين الكاميرا، انا جثة بلا عائلة، بلا أهل ولا اصدقاء، كلهم رحلوا، اببدوا، وبقيت وحدي ابحث عن حي يكلمني ويرشدني إلى مقبرة .
في غزة هناك جثث لا تزال تتكلم، تبكي، تشهد، تلعن، وهناك خارج غزة احياء يشبهون الموتى، يتقنون فن التبلد، ويتكئون على على مقاعد الحياد، وكان القهر لا يعنيهم، أو كأنهم صاروا جثثا صامتة، وما أكثر الذين فقدوا أرواحهم دون أن تطلق عليهم رصاصة، ماتوا حين مات الضمير، وماتوا حين صار الدم تفصيلا سياسيا على نشرة الاخبار.
ما اكثر الجثث في العالم، جثث تمشي على قدمين، وتبتسم كي لا تكشف، وجوهها مضيئة، وقلوبها مطفئة منذ سنين، هم في المدن الهادئة، في المكاتب الفخمة،في القرى المنسية، في الازقة، في مقاعد الدراسة، وفي مرايا الحمامات المحطمة، يعيشون بلا معنى، بلا امل، بلا حب، بلا قضية.
اتكلم مع جثتي لتساعدني على رفع الأنقاض ولملمة بقايا جسدي: انهضي ياجثتي، لم يبق سوانا تحت التراب والاسمنت، أو في هذه الزنزانة، انهضي، لقد قامت القيامة، انظري، لقد بدأ النشور وفتحت المعابر وهطل الخبز، وخرج العرب ورسالتهم الخالدة من ثلاجات الموتى.
انهضي يا جثتي، سيبنون لك صرحا في المدينة، وجدارية جميلة ملونة بالدم الارجواني، وسيكتب المفكرون ادب المأساة، ويحصلون باسمك على جوائز عالمية، وستجوبين كل متاحف الجثث في العالم المتنور، وسيقول علماء الآثار بانك اجمل ايقونة، جثة من غزة، لوحة تشكيلية لمدارس الفن في أوروبا وامريكا، محاضرات في الاكاديميا والانثروبولوجيا، يروون قصة الإنسان الذي كانت له حياة، انهضي ياجثتي صار هناك أدبا يسمى ادب الجثة.
جثتي في كل مكان، تترك دمها اينما تذهب، في غرف النوم، في كوابيس القتيل، في صالونات المحللين، في الصناعات الجوية، وفي البحر واليابسة، جثتي تحاصر الأقوياء وتدق الأجساد، تذكرهم بالقنابل والسكاكين والزنازين والقصف والتوحش، تذكرهم أن الاموات يعودوا من الموت دائما حتى لاتموت الذاكرة.
الموت في غزة فعل مؤقت، حالة عبور، ينام على الوسائد الممزقة، ويبتسم من الصور المعلقة على الجدران المائلة، كيف يموت من صار فكرة؟