اخبار فلسطين
موقع كل يوم -وكـالـة مـعـا الاخـبـارية
نشر بتاريخ: ٢١ أيلول ٢٠٢٥
الكاتب: عيسى قراقع
في عام 1915، اجتاح الجراد أرض فلسطين في كارثة وثقتها كتب التاريخ، والوثائق العثمانية، والمذكرات المحلية. جاء الجراد من الشرق، بأجنحةٍ خفيفة تحملها الرياح، ونزل على الأرض كما الغيمة السوداء، أتت أسرابه على كل شيء: السنابل، الأشجار، البساتين، لم يُبقِ للناس ما يأكلونه، ولا للحيوانات ما تعيش عليه. فانتشرت المجاعة، وحلّ المرض، وهبط الموت على البيوت بصمتٍ خانق.
كتب أحد المؤرخين المحليين في مذكراته: 'لم نعد نفرّق بين رائحة الخبز ورائحة الجوع، كانت الأيام متشابهة، والجراد لا يغادر'، وكتب الجندي احسان تورجمان في يومياته: السماء غامت بلا غيم، حتى خلت أن الليل حل، والنهار انسحب مذعورا، أشجار عارية، وحقولا صامتة والمجاعة زحفت بلا صوت ولا طلقة.
لكن وعلى قسوته، لم يكن الجراد عدوًا واعيًا، لم يكن يحمل مشروعًا، لم يعرف الخرائط ولا الأعراق، لم يُصنع في مختبرات، ولم يُبرمج على قتل الإنسان، كان كارثة بيئية تمر، وتترك آثارها، ثم تمضي.
أما اليوم، فالجراد عاد، لكن بصورة أخرى، عاد فوق غزة، لا من الطبيعة، بل من مصانع الموت. لا تسيره الريح، بل العقول الاستعمارية. لا يبحث عن زرع، بل عن لحمٍ بشري. جراد لا يأتي ليأكل، بل ليُبيد، يحمل وعدا بالتطهير، بالاقتلاع، بالنسيان.
إنه جراد مسلح، بأجنحةٍ من طائرات عمياء، وصواريخ ذكية، وقنابل عنقودية وفراغية وفسفورية، احالت الأرض إلى رماد، والناس إلى أرقام.
جراد لا يزحف عشوائيا، بل يختار أهدافه بعناية: مستشفى هنا، مدرسة هناك، ملجأ للأطفال، أو بيت تؤويه عائلة منذ ثلاثة أجيال.
إنه ليس سربًا من الحشرات، بل فلسفة قتالية، عقل عنصري يرى في غزة حقل اختبار دائم، كل قنبلة تُلقى هناك لا تأتي من فراغ، بل من مشروع طويل: مشروع اقتلاعٍ من الجغرافيا والتاريخ، من الذاكرة والمعنى.
الجراد الحديث ذو القرون الطويلة الفتاكة، لا يرى في الأرض إلا ساحةً للإفناء، وما يستحق الحياة، بالنسبة له، يجب أن يُمحى، لهذا تحولت غزة الى مقبرة ليس للبشر فقط ، بل للطبيعة والحياة.
في زمن الحرب العالمية الأولى، كانت الناس تطرد الجراد بالدخان، تحاول إشعال النيران، تدق الأواني لتخيفه. كان هناك مجال للمقاومة، ولو رمزيًا، أما اليوم، فكيف تخيف قنبلة موجهة بالأقمار الصناعية؟ كيف تطرد سرب طائرات إف-16 من السماء؟ كيف تصرخ في وجه صاروخ لا يسمع؟ أو روبوت مفخخ بالمتفجرات، إن الجراد اليوم يحمل نيران جهنم، ليس عابرًا، بل ساكنًا في منهجية ونظام الإبادة.
الجراد المسلح يطير فوق غزة بأجنحة من من نار وحديد، لا يعيش على الجوع، بل يتغذى على العنصرية والفاشية، إنه مخلوق من ايديولوجيا كريهة متحركة، يؤمن بتفوقه العرقي، يرى في الآخر خطرًا بيولوجيًا يجب تصفيته. وهو لا يأتي فجأة، بل يُخطط له، ويُنتج في مصانع أمريكا وأوروبا، من حضارات عادت إلى عصور الظلام، ونسيت ان تكون إنسانية .
اليوم لا ياتي الجراد من الطبيعة، بل من دولة اسبارطية، دولة الجدران والابراج والمعسكرات والأسلاك الشائكة، من عقول مشبعة بالانحطاط الاخلاقي والانساني، بالبشاعة والعنصرية، لايبحث عن مزروعات، بل عن اجسام بشرية.
الجراد الجديد مفترس لحوم لا نبات، يصطاد الأرواح، يصوب بدقة، له عيون صناعية ترى في الليل، وله ادمغة مبرمجة على القتل، يلتهم الاطفال والجثث، يجفف التراب والاثداء ويبعثر الاشلاء، يشرب الدماء ولا ينتج غير الكارثة.
جراد صهيوني امريكي اوروبي استعماري، معدنا مصقولا في مصانع الابادة الجماعية، صار طيارا بلا طيار، صار دبابة وجرافة تهرس اجساد البشر، يرى في غزة مزرعة للموت لا موطنا للناس، جراد يحمل أيديولوجيا الهيمنة،عقيدة الاستىصال، فلسفة النفي الكلي، لا يكتفي بالارض، بل محو الوجود الفلسطيني ذاته: لغته،ثقافته،هويته، حجارته واغانيه، وهكذا تحوّلت غزة إلى مسرح موت يراقبه العالم من خلف الزجاج، والى حقل تجارب للأسلحة الحديثة، إلى مكانٍ تُختبر فيه حدود الصمت الدولي، ومقاييس التحمل الإنساني.
في زمن الجراد، عندما تساقط فيه التاريخ من بين أصابع القدر كالرمل اليابس، وبينما كانت الشمس تسيل فوق جباه اللاجئين والفلاحين والفقراء، زحفت على فلسطين ثلاثية الدمار: الطاعون والموت المسلح والجراد، لتعيد رسم الأرض بالوان الفناء، ويقال إن السماء اسودت، لا من الدخان وانما من الاجنحة، وما بين الجراد والطاعون والتشرد والتجويع، والقصف والنسف، كانت ومازالت غزة تنزف، وتدفن أبناءها تحت صمت أشبه بالموت المؤجل.
غزة تلك المدينة التي طالما حملت في اسمها وجعا مختوما بالشمس والملح، لم تكن ساحة فقط، بل ضحية معلقة بين السماء والغبار، ما بين العثمانيين والاحتلال البريطاني والاستعمار الصهيوني، وذاكرة مر عليها الكثير من الغزاة، كانت المدينة تذبح على مهل، لا بالرصاص فقط، بل بجوع ينهش العظام، ووباء يسرق الانفاس، وجراد يأتي ، يبيد الحياة في بذرتها.
الابادة لم تأت لحظة واحدة، كانت عملية جهنمية مستمرة منذ النكبة، سلاحها: كل ما يميت، لم ترم غزة بالنار فقط، انما بالغياب: غياب القمح، غياب الدواء، غياب الماوى، غياب العدالة، حتى الموت كان يأتي مرهقا، لانه سئم هو الآخر من التكرار.
كما في زحف الجراد القديم، تبقى فلسطين عصيّة على الفناء. تموت، نعم، لكنها تنهض. يُقصف جسدها، لكن روحها تبقى مشتعلة. لأن الأرض التي أنجبت التاريخ، لا يستطيع الجراد، مهما تسلح، أن يمحوه.
في زمن الجراد، القديم أو الحديث، تبقى غزة نقيض الزوال، تبقى فكرة، والجراد لا يقتل الأفكار.
رغم كل هذا الاجتياح الهائج، رغم هذا الزحف البهيمي، رغم أن دولة الاحتلال تحولت إلى دولة جراد، جيشا وحكومة ومؤسسات، اعلاما وقضاء، محاكم وسجانين ومستوطنين، ورغم التواطؤ والعجز العالمي بوقف اكبر واعنف إبادة في التاريخ الانساني، غزة لم تمت، دفنت أبناءها، بكت كثيرا، لكنها لم تمت، بقيت واقفة.
غزة شاهدة على أن الانسان، حتى وإن قتل تحت ثلاثية الجراد والطاعون والحرب، يمكنه أن ينهض، لا لانه اقوى، بل لأنه لا يملك خيارا آخر سوى الامل والإرادة.
ما لا يعرفه الجراد، مهما تطوّر سلاحه وتوحشت نيرانه، أن غزة ليست مجرد مكان، وليست مجرد شعبٍ محاصر، غزة فكرة، والفكرة لا تُقصف، هي نبضٌ عنيد، حين يتوقف كل شيء، يظلّ هو ينبض، هي أمٌّ تُنجب تحت الركام، طفلًا يُولد في الظلام، ويصرخ: أنا هنا، هي جدّة تُخرج كسرة خبز من بين الأنقاض وتقول لحفيدها: كُل، لا زلنا أحياء.
في كل بيت مهدوم، حكاية لا تموت. في كل شارع مغبرّ، خطوات نحو الصمود. وفي كل عين تدمع، وعدٌ بأن من بقي سيحكي لمن يأتي. وإن لم يبق أحد، فستبكي الحجارة وتروي، لأن غزة تكتب تاريخها حتى بالدموع
كتب الشاعر عبد اللطيف عقل، مخاطبا المجتمع الدولي من ساحة المهد في بيت لحم ليلة عيد الميلاد: كيف اعلم حب المسيح، وهذا المكان مزدحم بالجراد المسلح؟ تلاميذ المدارس يطاردون الجراد، في ايديهم الدفاتر والحجارة، وفي عيونهم الرفض.
كم مرة يمكن أن يعود الجراد قبل أن تصبح الحياة مستحيلة؟ ولماذا لم تسقط غزة؟ سؤال يطرحه كل من ارسل الجراد ولم يعد، الاباديون لم يفهموا شيئا من التاريخ، فالجراد وان اباد المحاصيل ونشر الموت الاسود والاوبئة، لا يقتل البذور، وان جرد الأشجار من أوراقها فالفصل القادم سيأتي.
وإن كان هذا زمن الجراد، فلتكن غزة وعد الحياة .