اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٤ تموز ٢٠٢٥
في لحظة تاريخية مشحونة بالدم والمجازر، يُعاد إنتاج الصفقة من جديد، لا باعتبارها حلاً، بل أداة لإعادة تشكيل وعي الفلسطينيين، وقلب معادلة الحق إلى مصلحة تفاوضية، يُسوّق الإعلام العبري لما يُسمى اتفاقاً شاملاً باعتباره انتصاراً للعقلانية الصهيونية ومرونة غير مسبوقة، في حين الحقيقة التي يعرفها الفلسطيني جيداً تقول غير ذلك: ما هو مطروح لا يعدو كونه محاولة لفرض أمر واقع جديد، يتخفّى خلف خطاب إنساني زائف، ويُروَّج له بمصطلحات مُضلِّلة هدفها ترويض الشعب لا تحقيق مطالبه.
أهل غزة ليسوا طرفاً في صراع حدودي، بل هم شعبٌ أصيل يتعرض لحرب إبادة مستمرة، تُرتكب أمام مرأى العالم وتحت صمته المعيب، وبينما تُدار المجازر في الميدان، تُدار المعركة الأخرى على الطاولة، باستخدام أدوات ناعمة: الإعلام، الضغط النفسي، الابتزاز الإقليمي، وتفخيخ المفاهيم، وهنا تصبح الصفقة ليست فقط عنواناً سياسياً، بل لحظة اختبار تاريخي: فهل ينجح الاحتلال في تحويل مأزقه العسكري والسياسي إلى فرصة تفاوضية عبر صفقة تغطّي على فشله الميداني وتُجمّل جرائمه، أم يتمسك الفلسطينيون بحقّهم المشروع في انتزاع مكاسب تُعبّر عن تضحياتهم، لا عن رغبات الوسطاء.
إن ما نواجهه اليوم ليس تفاوضاً على مستقبل قطاع محاصر، بل محاولة لاغتيال وعي أمة، ولتدجين ذاكرة مقاومة، من خلال خطاب مسموم يتسلل عبر الإعلام العربي والغربي على السواء، وفي ظل هذا المشهد المعقّد تبرز الحاجة إلى تفكيك هندسة هذه الصفقة، وتحليل أهدافها الحقيقية، وآليات الضغط التي تحيط بها.
تُروَّج الصفقة المطروحة اليوم على أنها لحظة إنسانية، ومقترح إنقاذي من جحيم الحرب، في محاولة خادعة لإعادة صياغة مشهد المجازر بطلاء تفاوضي ناعم، لكن هذا الخطاب الإنساني المزعوم لا يُعبّر عن واقعها الحقيقي، بل يخفي جوهرها الاستعماري: محاولة لتثبيت نتائج العدوان، وتجميل مشروع اقتلاع شعب كامل عبر إطار قانوني شكلي، لا يمسّ بجوهر الاحتلال بل يمنحه شرعية استباقية جديدة.
فالصفقة لا تنطلق من مبدأ العدالة، بل من هندسة استعمارية ناعمة تُعيد تعريف القبول الفلسطيني، لا وفقاً لحقوقه الثابتة، بل بما تسمح به لحظة الإنهاك الجماعي، وهنا يظهر ما يمكن تسميته إدارة ما بعد المجزرة: وهي مرحلة يسعى فيها الاحتلال إلى ضبط الفضاء العام الذي ولّده القصف والدمار، وتحويله إلى مكسب سياسي بآليات ناعمة، مثل: التفاوض المشروط، المسارات المتعددة، وضغط الوسطاء الإقليميين والدوليين، وهنا لا تعمل الصفقة على إنهاء العدوان، بل على ترسيم نتائجه، وتكريس هندسة السيطرة، عبر إعادة بناء وضع مستقر يخدم أمن الاحتلال لا كرامة الفلسطيني، وما يبدو أنه حل إنساني هو في الحقيقة محاولة لإخراج الاحتلال من مأزقه العسكري بعد فشله في تحقيق أهدافه، عبر صناعة مخرج سياسي تحت غطاء الرحمة.
منذ بداية الترويج لمقترح الصفقة، حرصت وسائل الإعلام العبرية على تصدير صورة مفادها أن الاحتلال قدّم تنازلات استثنائية، وأبدى مرونة كبيرة، وأن الكرة الآن في الملعب الفلسطيني، هذا التمركز السردي ليس بريئاً؛ بل هو امتداد لمنظومة التضليل الصهيوني التي تحوّل كل مأزق عسكري إلى انتصار رمزي، فالمرونة التي يتحدثون عنها لا تظهر على الورق، بل تُصنع في غرف التحرير، وفي حلقات النقاش داخل القنوات العبرية التي تحاول تصوير الاحتلال كقوة مسؤولة، مقابل شيطنة المقاومة بوصفها طرفاً يعرقل الحل الإنساني.
في تحليله لتكتيكات الإعلام في الحرب، أشار الصحفي الصهيوني 'تال ليف رام' إلى أن 'الرسائل يجب أن تسبق القنابل'، وهذا ما يفعله الإعلام العبري بدقة: يبني رواية نفسية تُمارس الضغط على الداخل الفلسطيني، لتبدو الصفقة كأنها الفرصة الأخيرة قبل الكارثة، هذه السردية المصنّعة تهدف إلى أمرين: أولاً تضليل الرأي العام الدولي عبر خطاب أخلاقي مزيّف، وثانياً ممارسة ضغط نفسي ممنهج على الداخل الفلسطيني، من خلال دفعه إلى الاعتقاد بأن لحظة الفرصة قد لا تتكرر، في هذا السياق تتحوّل المرونة إلى أداة ابتزاز ناعم، بينما الحقيقة هي محاولات تكريس سقف تفاوضي منخفض باسم الواقعية، هذه ليست مرونة بل هندسة وعي عدواني، تُحاصر الفلسطيني بالمجازر، ثم تُقدّم له مخارج مشروطة كأنها مِنَح، في مشهد تتماهى فيه الكاميرا مع البندقية.
ما يحدث في غزة ليس مجرد إبادة، بل مشروع متكامل لتفكيك المجتمع الفلسطيني نفسياً وثقافياً، وتأتي الصفقة اليوم كأداة جديدة للإبادة الناعمة، تستبدل لغة الدم بلغة العيش الكريم، وتعيد تعريف الكرامة الوطنية كرفاه إنساني مؤقت، في هذا السياق تُستخدم مصطلحات مثل استعادة الهدوء، ترتيبات طويلة الأمد، وإنقاذ المدنيين كأدوات تفريغ للمحتوى السياسي، بينما الحقيقة أن الاحتلال يسعى إلى تكريس ما بعد المجزرة واقعا ثابتا: وقف إطلاق نار لا يشمل وقف العدوان، وإعادة إعمار مشروطة بالسكوت، واتفاق يجمّد
المقاومة تحت بند الاستقرار، فنحن أمام صفقة لتحييد البنادق لا وقف الحرب، حيث تُستبدل شروط التحرر بشروط التمويل، ويتم ترويض الشعوب من خلال خطاب دولي مشترك يتحدث باسم المنكوبين، دون مساءلة الجلاد.
رغم أن المشهد يبدو فلسطينياً-صهيونياً، إلا أن طاولة الصفقة مزدحمة بأطراف خارجية تمارس أدواراً غير بريئة، على رأس هذه الأدوار يأتي الدور القطري، الذي يحاول تمرير المبادرة وفق مزيج معقد من الوساطة والضغط، والمفارقة أن الدوحة نفسها تتعرض لضغوط أمريكية وصهيونية لضبط إيقاع التفاوض بما يخدم الخروج الصهيوني الآمن.
في هذا الإطار، يأتي لقاء ويليام بيرنز (مدير الـCIA) بمسؤولين قطريين في الدوحة، ليس فقط كجولة تنسيق، بل كأداة ضغط إقليمي حاسم، ويوازي ذلك نشاط ملحوظ للاستخبارات المصرية والصهيونية معاً في ضبط نبرة المقاومة، وتمرير صيغة لا تهزم أحدًا لكنها تقطع الطريق على الجميع، إنّ ما يحدث خلف الطاولة أخطر من التفاوض نفسه؛ إذ يتم استخدام الحصار والممرات وحتى إدخال المساعدات، كأوراق مساومة، وهذا ما يمكن تسميته بدبلوماسية الحصار المركّب، حيث يُطلب من الضحية أن تفاوض على تنفّسها.
في خضم هذه التعقيدات، تبرز الحاجة الملحّة إلى إعادة تعريف الموقف الوطني، لا من باب الشعارات، بل من باب إدراك أن ما يجري هو محاولة لإنهاء فكرة المقاومة كمرجعية شاملة للشعب الفلسطيني.
ليس المطلوب من الداخل الفلسطيني أن يرفض الصفقة لفظياً فقط، بل أن يُدرك أن المعركة مستمرة، وأن التفاوض لا يعني نهاية المعركة بل نقطة تحول فيها، ويقع على عاتق النخب والمثقفين والإعلام المقاوم مسؤولية كبرى في كشف حقيقة ما يجري، لا بالخطاب التحريضي، بل ببناء وعي يحمي القرار الفلسطيني من التسييل السياسي، وعلى المقاومة أن تُمنح المساحة الكاملة لإدارة المعركة وفق رؤيتها الميدانية، دون ضغوط داخلية تكرّس الانقسام بين الدم والموقف، فهذه اللحظة ليست لحظة شعارات، بل لحظة مفصلية في تحديد طبيعة المستقبل: إما كرامة تستحق ثمنها، أو واقع مشوّه يُفرض بغطاء إنساني لا يعترف حتى بدماء الأطفال.
تُطرح الصفقة اليوم كخيار إنقاذي، بينما هي في حقيقتها جزء من آليات إعادة تشكيل المنطقة وفق هندسة صهيونية - أمريكية جديدة، عنوانها: السيطرة بدون تكلفة، والتطبيع بدون انسحاب، وكل ما يُطلب من الفلسطيني أن يوقّع على حياته كما هي: محاصراً، مقموعاً، لكن هادئاً.
وفي مواجهة هذه المعادلة، لا يكفي أن نُفشل الصفقة سياسياً، بل يجب أن نُفككها وعياً ونُعري خطابها، ونُعيد بناء مفهومنا للانتصار: لا كوقف نار مؤقت، بل كتحرر كامل من شروط الاحتلال، مهما تعددت صِيَغه، وتفكيك الصفقة وعياً يعني مقاومة روايتها من داخل مفرداتها: أن نرفض اختزال القضية في معابر، أو تخفيض الحلم الوطني إلى تسهيلات، وأن نُعرّي الخطاب الذي يحاول أن يُقنع الضحية بأن توقيعها على نصف حقوقها هو حكمة تاريخية، وأن قبولها بالعيش المشروط هو قمة الواقعية السياسية، وإعادة بناء مفهوم الانتصار لا تعني مجرد استئناف المقاومة، بل استعادة المعنى الجوهري للكرامة: أن الهدنة لا تُفرض بين جولتين من الذبح، بل مشروع متكامل لاستعادة الأرض والقرار والهوية، وأن وقف إطلاق النار، في ظل بقاء الاحتلال والعدوان والحصار، ليس سوى شكل جديد من أشكال استمرار الحرب على هيئة صمتٍ قسري.
لهذا، فإن المعركة الحقيقية لم تعد فقط على حدود غزة، بل في الوعي الجمعي للأمة، وعلينا أن ننتصر حيث يُراد لنا أن نستسلم: في اللغة، في التسمية، في التصوّر، وفي المعنى.