اخبار فلسطين
موقع كل يوم -وكـالـة مـعـا الاخـبـارية
نشر بتاريخ: ٣٠ أب ٢٠٢٥
الكاتب: د. منى ابو حمدية
منذ نشأة منظمة التحرير الفلسطينية ككيان سياسي وطني معترف به عربياً ودولياً، شكّلت العلاقة مع الأمم المتحدة محوراً أساسياً في مسار الدبلوماسية الفلسطينية. فالمنابر الأممية كانت دائماً نافذة الفلسطينيين لإيصال صوتهم إلى العالم، وتثبيت حقوقهم الوطنية والقانونية في مواجهة سياسات الاحتلال الإسرائيلي. ومع ذلك، ظلّت الولايات المتحدة الأمريكية تمارس نفوذها العميق في تعطيل هذا الحضور، مستخدمة أدوات غير مباشرة أحياناً كالدعم السياسي والمالي لإسرائيل، وأدوات مباشرة في أحيان أخرى، مثل منع الوفود الفلسطينية من الحصول على تأشيرات دخول إلى أراضيها، حيث تحتضن مقر الأمم المتحدة في نيويورك.
تطرح هذه السياسة أسئلة جوهرية حول شرعية التمثيل الفلسطيني، حدود السيادة الأمريكية على مؤسسة أممية ذات طابع دولي، وأبعاد استخدام “التأشيرة” كأداة ضغط دبلوماسي.
من هنا، يسعى هذا المقال إلى تحليل أبعاد المنع الأمريكي، عبر التعمق بالمحاور التالية: تسييس التأشيرات، الفيتو على الدبلوماسية، الإقصاء القانوني والسياسي، الاستراتيجية الأمريكية في الحد من الحضور الفلسطيني، والحق الفلسطيني في التمثيل الأممي.
أولاً: تسييس التأشيرات – منع واشنطن للوفود الفلسطينية وتداعياته على التمثيل الدولي
تتحكم الولايات المتحدة، بصفتها دولة المقر للأمم المتحدة، في منح التأشيرات الدبلوماسية لممثلي الدول والكيانات المشاركة في الاجتماعات الأممية. غير أن هذا الدور الإداري تحوّل إلى أداة سياسية في الحالة الفلسطينية، إذ استخدمت واشنطن سلطة إصدار التأشيرات كوسيلة لحرمان منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية من الوصول إلى قاعات الأمم المتحدة.
إن تسييس التأشيرات يعكس إخضاع الحقوق الدبلوماسية للقانون الأمريكي الداخلي بدلاً من القوانين الدولية الناظمة للعلاقات بين الدول والهيئات. هذا التسييس لا يقتصر على كونه إجراءً إدارياً، بل يمثل محاولة لإعادة صياغة “شرعية التمثيل”، إذ يُراد عبره أن يظل الصوت الفلسطيني مرهوناً بالإرادة الأمريكية. وتؤدي هذه السياسة إلى 'تشويه مبدأ المساواة' بين أعضاء المجتمع الدولي، وإضعاف قدرة الفلسطينيين على المشاركة في صياغة القرارات الأممية التي تتعلق مباشرة بمصيرهم.
ثانياً: الفيتو على الدبلوماسية – قراءة في منع واشنطن وفود فلسطين من الوصول إلى الأمم المتحدة
يشكل منع منح التأشيرات نوعاً من “الفيتو غير الرسمي” على الدبلوماسية الفلسطينية. ففي حين تمتلك واشنطن حق النقض الرسمي في مجلس الأمن، فإنها عبر أداة التأشيرات تمارس نقضاً موازياً في فضاءات العمل الأممي الأخرى.
هذا الفيتو الخفي يحول دون وصول الممثلين الفلسطينيين إلى الأمم المتحدة، بما يعنيه ذلك من تعطيل لمشاركتهم في النقاشات والقرارات، وإفقادهم الفرصة لعرض وجهة النظر الفلسطينية أمام المجتمع الدولي. ويعكس هذا السلوك رغبة أمريكية في احتكار سردية الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي على المنصات الدولية، بحيث تكون الرواية الإسرائيلية مدعومة بالحضور الكامل، بينما يُقصى الفلسطينيون عبر منع مادي مباشر.
ثالثاً: إقصاء الصوت الفلسطيني – أبعاد قانونية وسياسية لمنع واشنطن منح التأشيرات للسلطة ومنظمة التحرير
من الناحية القانونية، يتعارض المنع الأمريكي مع “اتفاقية المقر” لعام 1947 المبرمة بين الأمم المتحدة والولايات المتحدة، والتي تفرض على الدولة المضيفة تسهيل وصول ممثلي الدول الأعضاء والكيانات المعترف بها إلى مقر المنظمة الدولية. إن رفض واشنطن منح التأشيرات للوفود الفلسطينية يمثل انتهاكاً لهذه الاتفاقية، ويثير إشكالية حول تداخل السيادة الوطنية مع الالتزامات الدولية.
أما من الناحية السياسية، فإن هذا الإقصاء يعمّق هشاشة التمثيل الفلسطيني، ويضعف قدرة منظمة التحرير والسلطة على انتزاع اعترافات أوسع بحقوق الشعب الفلسطيني. كما أنه يكرّس التبعية السياسية للقرار الأمريكي، ويحوّل أي تحرك فلسطيني نحو الشرعية الدولية إلى معركة مزدوجة: معركة ضد الاحتلال الإسرائيلي ومعركة ضد العراقيل الأمريكية.
رابعاً: الحد من الحضور الفلسطيني في المنابر الأممية – دراسة في الاستراتيجية الأمريكية
لا يمكن النظر إلى منع التأشيرات بوصفه حادثة منفصلة، بل كجزء من استراتيجية أمريكية متكاملة تهدف إلى تقليص حضور فلسطين في الساحة الدولية. فمنذ عام 1989، حين أُجبر رئيس منظمة التحرير ياسر عرفات على إلقاء خطابه في (جنيف ) بدلاً من نيويورك بعد رفض واشنطن منحه تأشيرة، واليوم يتكرر المشهد بأشكال متعددة.
الاستراتيجية الأمريكية تستند إلى ثلاثية أساسية:
- منع الاعتراف الكامل بالدولة الفلسطينية داخل الأمم المتحدة
- حماية إسرائيل من الإدانة الدولية
- وإضعاف أدوات الضغط الدبلوماسي الفلسطيني. وبالتالي فإن سياسة التأشيرات هي جزء من إدارة أوسع للصراع، هدفها أن يظل الفلسطينيون خارج دوائر التأثير الفعلي داخل الأمم المتحدة.
خامساً: الحق في التمثيل أمام الأمم المتحدة – قراءة في صراع التأشيرات بين واشنطن وفلسطين
إن منع الفلسطينيين من دخول الأمم المتحدة لا يقتصر على كونه انتهاكاً سياسياً، بل هو اعتداء على مبدأ أصيل في القانون الدولي: حق الشعوب في التمثيل والمشاركة. فالاعتراف الذي نالته منظمة التحرير الفلسطينية عام 1974 كـ “ممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني” من قبل الأمم المتحدة، والارتقاء بتمثيل فلسطين إلى “دولة مراقب غير عضو” عام 2012، يضع التزاماً قانونياً وأخلاقياً على المجتمع الدولي بضمان وصول ممثليها إلى المنابر الأممية.
صراع التأشيرات هنا يتجاوز البعد الإداري ليصبح رمزاً للصراع الأوسع حول 'الهوية والوجود الفلسطيني' على الساحة الدولية. فهو يقيس المسافة بين الاعتراف الدولي المبدئي وبين القدرة الفعلية على ممارسة هذا الاعتراف في المحافل الأممية.
في الختام … تكشف سياسة منع واشنطن منح التأشيرات للوفود الفلسطينية أنها ليست مجرد 'خلاف إداري'، بل جزء من منظومة أوسع تهدف إلى تقييد الدبلوماسية الفلسطينية وحصرها ضمن حدود توازن القوى الذي ترسمه الولايات المتحدة وإسرائيل.
إن استخدام “التأشيرة” كسلاح دبلوماسي يمثل شكلاً جديداً من أشكال السيطرة، يضاف إلى أدوات الضغط العسكري والاقتصادي والسياسي التي اعتاد الفلسطينيون مواجهتها.
وبينما يظل الحق الفلسطيني في التمثيل الأممي ثابتاً بموجب قرارات الشرعية الدولية، فإن التحدي الأكبر يتمثل في كسر دائرة التبعية لقرار الدولة المضيفة.
هذا يتطلب جهداً دولياً لإعادة النظر في آليات عمل الأمم المتحدة، بحيث لا تبقى رهينة لإرادة طرف واحد، بل تظل وفية لمبدأها الأساسي: منح كل الشعوب حق إيصال صوتها أمام المجتمع الدولي.