اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٢٨ أيار ٢٠٢٥
كغيرها من عشرات الأطفال النائمين في مركز إيواء مدرسة فهمي الجرجاوي بحي الدرج بمدينة غزة، استيقظت الطفلة ورد الشيخ خليل (6 سنوات) على وقع انفجارات وشظايا صواريخ، لتجد نفسها محاصرة بين حمم نيران تلتهم أجساد الشهداء وطعامهم وفراشهم، الساعة الواحدة فجر الاثنين.
في لحظات كانت صرخات الألم تختلط برائحة الدخان. نساء وأطفال يطلقون صرخات استغاثة، ويحترقون، يمدون أيديهم الصغيرة طلبا للنجاة قبل السلام الأخير، كانت أرواح بعضهم ترحل بهدوء وصمت. تقدمت ورد تجاه النافذة، ثم استدارت تائهة وهي تبحث عن مخرج من الحمم، لتنجو الطفلة على واقع مؤلم عندما وجدت الباب لكنها فقدت خمسة إخوة، وأمها، ونجى معها والدها وشقيقها. في المجزرة استشهد نحو ثلاثين شخصًا بينهم 18 طفلاً صغيرًا وست نساء.
يتكرر نفس المشهد، ويعاد بنفس الطريقة، الصاروخ ذاته، ومشاهد الاستغاثة والاحتراق متشابهة، وكأنها نسخ متكررة، تختلف فيها الوجوه والأسماء والأماكن التي تتغير، فيما يستمر الصمت العالمي و'كأن العالم فقد إنسانيته' تقولها عيون ناجين بما لم تبح به ألسنتهم، وهم يجلسون فوق الركام بغير حول لهم ولا قوة.
في القسم الغربي من الطابق الأرضي بالمركز، عادت الطفلة 'ورد' مرة أخرى للمكان مع عمها، عاشت الطفلة هنا منذ بداية الحرب بعد تدمير منزلهم، لا تعرف الطفلة شيئا مما حدث لأخوتها، سوى أنها أمضت يومها الأخير تلعب معهم ككل يوم، ونامت بجوارهم، وعادت تبحث عنهم، كانت عيناها تتجول بصدمة وسط الدمار والموت والمكان الذي تغير، تعتقد أنهم لا زالوا على قيد الحياة.
'احترقت عائلتها بالكامل، استشهد خمسة إخوة، وأمهم ونجت هي ووالها وشقيقها. جاؤوا من حي الشجاعية منذ بداية الحرب بعد هدم منزلهم وعدم وجود مأوى وعاشوا في المركز في حياة صعبة، لكنهم صبروا عليها وتأقلموا على نمط الحياة الصعب، فهم يعيشون في فصل تتشاركه معهم عائلات أخرى. والجميع تشارك بالموت أيضًا بعد أن حرقت النار الجميع' يقول عم ورد إياد الشيخ خليل لـ 'فلسطين أون لاين' وهو يحملها بين ذراعيه.
من حولهم أصبحت الجدران متفحمة وشاهدة على حمم نار أكلت أجساد الشهداء، يملأ الدمار المكان، الطعام اختلط بالرماد، كما اختلطت به أجساد الشهداء المحترقة، الفصول مفتوحة على بعض بفعل شدة الانفجار والقصف، فتحات تملأ الطوابق العلوية ناجمة عن سقوط الصواريخ منها والانفجار في الأسفل.
في ساحة المدرسة تناثر الركام وطعام وملابس النازحين، الذي افترش كذلك شارعًا محيطا بالمدرسة من الجهة الغربية، ودمر معظم مركبات الأهالي المتوقفة. خلّف القصف مجزرة ودمارًا هائلاً بالمركز، لم يرحم وجود مئات الأطفال وأمهاتهم، الذين فروا من الموت شرق وشمال غزة ولجؤوا إلى هنا بحثا عن الأمان لكنهم لم يجدوه، ليلاحقهم الاحتلال.
فرحة احترقت
على أحد المقاعد يجلس الشاب راجي حمدان، يلف الشاش رأسه ويده بعد تعرضه لإصابة، ويجلس مع إخوته وجموع من الأهالي يستقبلون المعزين أو يعزون أنفسهم، تحتل الصدمة ملامحه وتملأ الخدوش أنحاءً من وجهه وجسده.
كان من المفترض أن يشهد الشاب عقد قران اثنين من أخوته صباح الاثنين ويستقبل المهنئين بهذا المناسبة، ليتحول الفرح إلى مأتم، وتحترق فرحة العرسان، بعد استشهاد شقيقهم الطفل غزوان (6 سنوات) وعمهم عبد الكريم بالمجزرة الدامية.
يحكي حمدان لـ 'فلسطين أون لاين': 'كنت نائمًا في الممر مع أولاد عمي، لعدم وجود مساحة كافية لنومنا في الداخل. فجأة حدثت انفجارات عنيفة داخل المكان، وتطاير الغبار والردم، وبدأت نار كبيرة تشتعل وتصل للسقف في ثوانٍ. تحاصر أخوتي في الداخل، كانت عمتي تصرخ علينا، فقمت بوضع غطاء مبلل على ظهري ودخلت من ناحية أخرى وبدأنا بإخراج الأطفال وأخرجت عمتي، وكان شقيقي غزوان وعمي مستشهدين. نحو خمسين دقيقة استمرينا في عملية إجلاء المصابين ومحيت عائلات جيراننا من عائلة الوادية والشيخ خليل'.
على مقربة منه، يتأمل شقيقه صلاح حمدان بعيون الصدمة الدمار الكبير، يقول لـ 'فلسطين أون لاين' عن فرحة قران لم تتم بعيون وقلب مكسور: 'قرأنا الفاتحة منذ ثلاثة أيام، وأتممنا إجراءات الفحوصات الطبية واتفقنا مع عائلة العروستين على عقد القران اليوم الذي صادف المجزرة. شقيقي العريس محمد أصيب بحروق بكامل جسده، وأصيبت خطيبته بحروق وكسور وجروح صعبة'.
'دمروا المكان وقتلوا فرحتنا' كان صوته مليئا بالقهر والأسي، ليس على قتل فرحته التي 'يمكن تعويضها فحسب'، وإنما على فقدان شقيقه وعمه وفقدان عائلات كاملة، عايشوهم منذ نزوحهم للمدرسة من شمال القطاع مع بداية العدوان، وعاشوا كعائلة واحدة، يتشاركون في الهم والمعاناة.
مشهد دام
ورغم أن خيمة آدم الكحلوت تقع على سور المدرسة، إلا أن النار اقتربت منهم، 'كان صوت الانفجار مختلفا عن أي صوت سمعته قبل ذلك' من فترة قريبة وصل الكحلوت نازحا من شمال القطاع.
يستعيد المشهد من الزاوية التي عاش فيها الحدث قائلا لـ 'فلسطين أون لاين': من شدة القصف نهضنا من النوم مفزوعين، وخرجت أركض تجاه المدرسة، فوجدت الصف الملاصق لنا محترقا بالكامل، الدفاع المدني وصل بعد عشر دقائق، المنظر كان مؤلمًا، أكثر شيء كان قاسيًا عندما رأيت طفلة وأمها تحترقان أحياء، ولا أحد يستطيع الدخول من شدة النار المشتعلة'.
يقف الكحلوت بين جدران متفحمة شاهدة على المجزرة الدامية، يتابع: 'بدأنا بجلب دلاء مياه، وإطفاء النار'. يخرج الصوت من قلب مقهور: 'فوق ما احنا لا عنا شرب ولا حياة ولا طعام، نموت محترقين. العالم وقتيش بده يصحى'.
في خارج سور المدرسة يتفقد أبو جهاد قويدر ثلاث مركبات يملكها هو وأخوته تدمرت بالكامل نتيجة القصف وسقوط أحزمة اسمنتيه من المدرسة عليهم، كان الجيران يحاولون مواساته في مصابه، يقول: 'المال معوض، قلوبنا تقطعت على الأطفال. أسكن بجوار المدرسة ولحظة القصف هرعنا لداخل المدرسة ووجدنا النار مشتعلة، وتحرق أجساد الأطفال'.
يعم الصمت المكان الذي كان قبل يوم يعج بالحياة، وصوت الأطفال وهم يبحثون عن حياة بين واقع مؤلم بالكاد تستطيع عائلاتهم توفير لقمة طعام تسد جوعهم، رحلت العائلات وأصبحت الجدران التي أوتهم وطعامهم وبقايا مقتنياتهم وملابسهم المحترقة، شاهدة على مجزرة دامية ارتكبها جيش الاحتلال بحق مركز إيواء متجاوزًا كافة المحرمات الإنسانية، مستمرا في استباحة دماء الأطفال و'كأنها هواية' كما قال أحد قادة الاحتلال عن قتل الأطفال.