اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ١٢ تموز ٢٠٢٥
حين خيّم الظلام على أطراف مدينة غزة، كانت سحر الحلو (٢٧ عاما) تحاول إرضاع رضيعها يوسف داخل خيمة أقامتها العائلة غرب مدينة غزة، بعد أن دُمّر منزلهم في حي الشاطئ. لم تكن تدري أن تلك الرضعة ستكون الأخيرة، وأن اللحظة التالية ستحمل أكثر الذكريات فتكا في قلبها.
تقول الحلو لصحيفة 'فلسطين': 'ما إن انتهيت من إرضاع يوسف حتى خرجت لتعبئة غالونات المياه من أجل الاستحمام، وفجأة دوى الانفجار. كل شيء اهتز. لم أعد أسمع سوى صراخي'.
لم يُصب الصاروخ خيمتهم مباشرة، لكنه كان قريبا بما يكفي ليفتحها من طرفها، ويقذف بالغبار والحصى والشظايا على الرضيع الهش.
تصف الحلو اللحظة: 'رأيت وجهه وقد تغيّر، لا حركة، لا صوت. احتضنته وركضت أصرخ: أنقذوا ابني. لكنه كان قد توقف عن التنفس. توقف إلى الأبد'.
لقد حمل المارة الطفل الرضيع يوسف إلى أقرب نقطة طبية. هناك أخبرهم الطبيب المعالج أن 'الطفل توقف قلبه. مات اختناقا بسبب الغبار والضغط الصوتي الشديد. جسده لم يحتمل'.
يقول والد الطفل، محمد الحلو (٣٣ عاما): 'كنا نظن أن الخيمة تحمينا، لم نكن نعلم أن الخطر يحيط بنا من كل جانب'.
يوسف لم يكن يعاني من أي مرض. كان يبتسم، ويحرك يديه، ويتشبث بالحياة رغم كل الفقر والجوع. لكن القصف لم يمنحه فرصة للنمو، ولا ليحتفل بعامه الأول.
يضيف والده: 'ابني مات قبل أن يعرف معنى اللعب، قبل أن تنمو أسنانه، قبل أن نناديه باسمه لأول مرة في المدرسة'.
'جوع منذ الولادة'
داخل خيمة في مركز إيواء عشوائي في حي النصر غرب مدينة غزة، كان بكاء الرضيع عمر، ابن الخمسة أيام، يعلو كأن صوته يصرخ من عمق المأساة. تصفه والدته، نهى عبد ربه (26 عاما)، بأنه 'جائع منذ اللحظة الأولى التي فتح فيها عينيه على هذا العالم المنهار'.
تقول عبد ربه لصحيفة 'فلسطين': 'ليس لدي في صدري أي حليب.. من أين يأتي الحليب وأنا لا أجد ما آكله'.
عبد ربه نُزحت من حي الشجاعية شرق غزة بعد أن دُمّر منزلها بغارة إسرائيلية. وصلت إلى غرب المدينة سيرا على الأقدام، وهي في شهرها التاسع. وُلد عمر على قطعة إسفنج مبللة داخل الخيمة، دون قابلة، ولا تعقيم، ولا حليب أطفال.
تصف عبد ربه اللحظة الأولى بعد الولادة: 'لفّيته بعباية قديمة وما كنت بعرف شو أعمل لما بدأ يبكي... بكاء عمر كان زي سكين في صدري، مش قادرة أرضّيه ولا أطعمُه'.
في الأيام التالية، حاول زوجها أن يحصل على عبوة حليب أطفال، لكن سعرها في السوق تجاوز 300 شيقل، أي ما يعادل 85 دولارا، وهو مبلغ مستحيل لأسرة فقدت كل شيء.
تضيف عبد ربه 'روحت على الصيدلية وأخبروني: الحليب صار زي الدهب، إن وُجد. وأنا حتى رغيف خبز مش قادر أوفره'.
الطفل عمر بدأ يظهر عليه علامات الجفاف وسوء التغذية: وجه شاحب، قلة نوم، وإسهال متواصل. طبيبة تطوّعت في عيادة ميدانية زارته وأكدت أن الطفل في خطر إن لم يحصل على حليب خاص وحديد.
وتابعت عبد ربه 'هذا الطفل بحاجة لمغذيات فورا وسط سوء التغذية الذي نواجهه، والحليب الصناعي غير متوفر. هذا الوضع يهدد حياته'.
عبد ربه الآن تمضي ساعات الليل في محاولات يائسة لتهدئة ابنها بالبكاء، أو بماء دافئ تغليه على موقد بدائي.
تقول: 'بشربه ميّ بس، قلبي محروق، كل ما يبكي بحس إنه سكين تدخل قلبي، ولا أعرف كيف أتصرف'.
'ابني يتنفس بصعوبة'
تجلس رغدة شقفة، (29 عاما)، على طرف إسفنجة رطبة في خيمة صغيرة أقامتها عائلتها داخل إحدى ساحات حي الرمال المدمر في مدينة غزة. على حجرها، يتلوّى رضيعها زيد، الذي لم يُكمل شهره الأول بعد، وتعلو أنفاسه ببطء وتقطع، كما لو أن كل نفس منه معركة صغيرة.
ولد زيد في الشهر الثامن من الحمل، بعد أن أصيبت والدته بحالة توتر حاد نتيجة القصف المتكرر على منطقتهم واضطرار عائلتها للنزوح في ظروف مأساوية.
'ما كان عندي وقت أروح على المستشفى، نزلت ميّه الولادة وأنا جوّا الخيمة، وولدت بمساعدة جارتي، ما عندها أي خبرة، بس ما كان في خيار تاني'، تقول شقفة لصحيفة 'فلسطين'.
بعد الولادة، بدا زيد ضعيفا وهزيلا، لا يقوى على الرضاعة، وجسده يميل إلى الاصفرار. حاولت والدته أخذه إلى مستشفى الشفاء، وتقول: 'المشفى كان فوضى… جرحى في كل مكان، غرف العمليات مليانة، وانقطاع مستمر للتيار الكهربائي'.
عاد زيد إلى خيمته دون فحص، دون حضانة، ودون متابعة طبية. بدأت حالته بالتدهور: صعوبة في التنفس، حرارة متقطعة، قلة نوم، وعدم قدرة على الإرضاع الطبيعي.
تقول شقفة: 'أنا نفسي ما بأكل عشان أرضّعه. لا في حليب، ولا في ميّ نظيفة. أنا خايفة عليه كل دقيقة'.
شقفة لم تعد تنام ليلا، تمضي الساعات تراقب تنفس ابنها، وتعدّ أنفاسه، تخشى أن يتوقف فجأة.
وتقول: 'نفسي بس حد يطمنّي إنو راح يعيش… بس ما في طبيب بيقدر يضمن شي بهالظروف'.
ويواجه الرضع في غزة كارثة إنسانية مركبة، بين قصف لا يرحم ومجاعة متفشية وتدهور كبير في الرعاية الطبية.
وقتل جيش الاحتلال الإسرائيلي في هذه الحرب نحو 17 ألف طفل منذ بداية الحرب على القطاع في السابع من أكتوبر 2023.
وبحسب التوزيع العمري، فقد بلغ عدد الرضع (أقل من عام) الذين استشهدوا 916 طفلا، بينما قُتل 4 آلاف و365 طفلا تتراوح أعمارهم بين عام و5 أعوام، و6 آلاف و101 طفلا بين 6 و12 عاما، و5 آلاف و124 فتى بين 13 و17 عاما.
كما تشير التقارير إلى تفشي سوء التغذية الحاد بين الأطفال، إذ تم قبول 5,119 طفلا تتراوح أعمارهم بين 6 أشهر و5 سنوات للعلاج في مايو 2025، من بينهم 636 حالة تعاني من سوء تغذية حاد جدا يهدد حياتهم بشكل مباشر.
وحذر تقرير مشترك لليونيسف وبرنامج الأغذية العالمي من أن نحو 470,000 شخص في غزة باتوا في مرحلة المجاعة (المرحلة 5)، بينهم 71,000 طفل و17,000 أم معرضون لخطر سوء التغذية الحاد على الفور. ومع انهيار نظام الرعاية الصحية ونقص الوقود، أصبحت الحضّانات ووحدات العناية المركزة للأطفال حديثي الولادة مهددة بالتوقف، ما يضاعف من خطر الموت البطيء لهؤلاء الرضع.