اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٢٠ تموز ٢٠٢٥
في شارع جانبي من منطقة المشتل في حي النصر غرب مدينة غزة، جلست أم ناصر غاضبة تبكي بصمت، بينما كانت تخلط آخر ما تبقى لديها من الطحين بالماء، لتصنع وجبة خالية من الطعم تسكت بها صراخ أطفالها الجائعين.
أم ناصر، أرملة نازحة من بيت لاهيا شمال قطاع غزة، فقدت منزلها في قصف إسرائيلي قبل خمسة أشهر، واضطرت إلى الفرار مع أطفالها الخمسة. تعيش اليوم في خيمة غرب غزة، مصنوعة من قماش أبيض تمزق نصفه بفعل الرياح.
تقول أم ناصر لصحيفة 'فلسطين': 'إن ناهبي المساعدات لم يتركوا لنا فرصة للحياة، ولم يمنحوا أطفالي أملاً بالشعور بالشبع'.
وتتابع: 'في السوق، يُباع كيلو الطحين بمئة وخمسين شيكلًا! من أين لي بهذا المبلغ؟' تقول ذلك وهي تحتضن صغيرتها التي فقدت الكثير من وزنها.
داخل الخيمة، لا توجد ثلاجة ولا غاز ولا حتى موقد بدائي، بل علبة معدنية توقدها ببقايا الكرتون وأكياس النايلون التي تجمعها من الشوارع. وتقول: 'أطهو على الحطب، والدخان يملأ صدور أولادي، لكن ماذا أفعل؟ لا وسيلة نار غير هذه'.
في اليوم السابق، سمعت أم ناصر من جيرانها أن قافلة مساعدات دخلت من منطقة زكيم شمال قطاع غزة، فحملت أصغر أطفالها على كتفها، وأمسكت بيد ابنها الأكبر، وسارت مسافة كيلومترين تحت الشمس الحارقة، على أمل الحصول على طحين أو عدس أو حتى حفنة من الأرز.
وتقول: 'وصلنا والناس كانوا يتزاحمون، لكن لم يكن هناك شيء. قالوا إن الشاحنات لم تصل. قالوا إنها سُرقت في الطريق. بكيت وصرخت، لكن لم يرد عليّ أحد. عدت إلى خيمتي خاوية اليدين، وقلبي مكسور'.
وتتّهم أم ناصر اللصوص بأنهم 'يتقاسمون المسؤولية الأساسية عن مجاعتنا مع الاحتلال، فهم أعوان للاحتلال بشكل مباشر أو غير مباشر'.
أطفال أم ناصر فقدوا الكثير من الوزن، وبات جلدهم يلتصق بعظامهم. وتقول: 'صغيرتي تبلغ من العمر أربع سنوات، ولم تعد قادرة على الوقوف أو المشي، من شدة الجوع والضعف. الأطباء قالوا إنها بحاجة إلى غذاء غني بالبروتين، حليب، وبيض، لكننا حتى الماء نغليه ثلاث مرات لنشربه'.
وتشير إلى أنها لم تتلقّ أي حصة إغاثية منذ شهر مارس الماضي، رغم تسجيل اسمها ثلاث مرات لدى لجان ومؤسسات مختلفة.
وتختم حديثها قائلة: 'أحيانًا أتمنى ألا يأتي الليل، حتى لا أسمعهم يبكون وهم نائمون... لكن أكثر ما يُحطمني، أنني لا أملك ما أقدّمه لهم... ولا حتى كذبة أمل'.
جحيم الأسعار
بلال غريب (42 عامًا)، نازح من مدينة غزة ويقيم في خيمة بمخيم النصيرات، يقول لصحيفة 'فلسطين': 'نحن نعيش في جحيم حقيقي. الأسعار نار، والمساعدات تُسرق على الطرقات. كيس الطحين الذي كان يُوزع مجانًا أصبح اليوم يُباع في السوق وكأنه سلعة نادرة. وصل سعر الكيلو الواحد إلى 150 شيكل! كيف يمكن لربّ أسرة فقير أن يؤمّن هذا لأطفاله؟'.
يتحدث غريب بينما كان يطحن بعض الأرز والمعكرونة في محاولة لصنع دقيق لإعداد الخبز: 'نتناول وجبة واحدة يوميًا، وأحيانًا لا شيء. أطفالي ينامون وهم يبكون من الجوع، وأنا أقف عاجزًا. ما ذنبي؟ وما ذنبهم؟'.
يتهم غريب سرقة المساعدات بأنها السبب الأول وراء هذا الارتفاع الجنوني في الأسعار، ويقول: 'ما يحدث ليس صدفة. هناك من يتعمد ترك المساعدات تُنهب وتُباع. إسرائيل لا توفّر الحماية لشاحنات الإغاثة، وتتركها في العراء ليعترضها من يشاء. كأنهم يريدون لهذه الفوضى أن تستمر، وللفقراء أن يتقاتلوا على فتات الخبز'.
ويضيف بغضب مكبوت: 'كيف تدخل الشاحنات، ثم تختفي قبل أن تصل إلى المخازن أو مراكز التوزيع؟ من المستفيد؟ نحن نعلم أن هناك من ينسّق على أعلى المستويات كي تُترك هذه الشاحنات بلا حماية، ويُفتح الباب أمام اللصوص'.
هندسة التجويع
فيما يقول الشاب محمود السوسي (29 عامًا)، المقيم في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، لصحيفة 'فلسطين': 'قبل يومين، حصلت على مساعدة غذائية من مؤسسة غزة الإنسانية، لكن ما شاهدته خلال عملية التوزيع كان أقرب إلى الفوضى التامة منه إلى عمل إغاثي منظم. كان الصراخ يعلو، والازدحام خانق، والناس تدفع بعضها البعض تحت الشمس الحارقة، ومعظم من أتى لطلب المساعدة هم اللصوص'.
ويتابع: 'المؤلم أنني لاحظت تكرار وجود نفس الأشخاص في كل عملية توزيع. شباب أقوياء يبدو عليهم كعصابات ويأخذون كميات كبيرة من المساعدات أمام أعين الجميع، دون أن يعترضهم أحد. رأيت بأم عيني أحدهم يحمّل خمس كراتين، في حين أن أُسَرًا نازحة تضم أيتاما لم تحصل على أي شيء'.
وأضاف السوسي: 'هؤلاء لا يأخذون المساعدات لأنهم بحاجة، بل لأنهم اعتادوا السيطرة على التوزيع في ظل غياب الرقابة. المؤسسة للأسف تُسهم في ذلك من خلال آلية توزيع فوضوية، تفتقر إلى العدالة، وتُمهّد الطريق أمام من يسرقون المساعدات ويبيعونها في السوق'.
وختم حديثه بالقول: 'نحن لا نعاني فقط من الحرب، بل نعاني أيضًا من الفساد الداخلي. من أشخاص بيننا يتاجرون بجوع الفقراء، ومن مؤسسات لا تمتلك آلية عادلة تحمي حقوق المستحقين. أصبح كيس الطحين يُباع في السوق بـ200 شيكل، بينما المحتاج الحقيقي يعود إلى خيمته خاوي اليدين'.