اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٢٠ تشرين الثاني ٢٠٢٥
من بغداد إلى غزة، يمتد خيطٌ طويل من التاريخ العربي المشترك، خيطٌ نسجته المواقف قبل البيانات، والدماء قبل الكلمات؛ فمنذ بدايات القرن العشرين، ومع تشكّل الوعي القومي في المشرق، احتلت فلسطين مكانة مركزية في المشهد العراقي، حتى باتت غزة ــ بما تمثله من رمز للمقاومة والصمود جزءاً أصيلاً من الوجدان السياسي والشعبي العراقي.
لم يكن الدعم العراقي للقضية الفلسطينية حدثاً طارئاً تفرضه الظروف، بل مساراً ممتداً تراكبت فيه المساندة العسكرية والمواقف الدبلوماسية والمبادرات الشعبية، ليشكّل عبر العقود ركناً ثابتاً في هوية الدولة العراقية الحديثة. وفي وقتٍ عصفت فيه الحروب والانقسامات بالمنطقة، ظلّ العراق على اختلاف أنظمته وتحولاته متمسكاً بموقفه التاريخي من فلسطين، معتبراً أن الدفاع عنها هو دفاع عن الذات العربية، وأن صمودها يمثل امتداداً لكرامة كل مدينة عربية من الموصل إلى البصرة.
يتضح هذا الارتباط المتين منذ عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، حين بدأ العراق، وهو يؤسس لدولته الحديثة، يتعامل مع القضية الفلسطينية بوصفها قضية قومية في صميم الهوية العربية. فقد شهد البرلمان العراقي آنذاك مناقشات حادة بشأن مخاطر الانتداب البريطاني والمشروع الصهيوني، فيما كانت بغداد تحتضن تظاهرات شعبية لجمع التبرعات وإرسال المتطوعين. ومع اندلاع ثورة 1936 في فلسطين، كان العراقيون من أوائل الداعمين لها في الخطاب والإعلام والحركة الشعبية، ما رسّخ الأساس الأول لهذا الارتباط التاريخي.
ثم جاءت حرب 1948 لتشكّل نقطة مفصلية في حضور العراق العسكري في فلسطين. فقد دخل الجيش العراقي مع الجيوش العربية الأخرى دفاعاً عن المدن والقرى الفلسطينية، وترك وجوده على الأرض آثاراً مادية ومعنوية لا تزال تُروى حتى اليوم؛ وفي الوقت الذي خضعت فيه غزة لاحقاً للإدارة المصرية، ظلّ صدى الدعم العراقي ممتداً في سياق عربي أوسع كان يُنظر فيه إلى الدفاع عن فلسطين كجزء من مسؤولية جماعية، لعب العراق فيه دوراً أساسياً.
ومع خمسينيات وستينيات القرن العشرين، في ظل صعود المدّ القومي العربي، تحوّل العراق إلى مساحة دعم سياسي وتنظيمي للفصائل الفلسطينية. احتضنت بغداد القيادات والمنظمات، وقدمت دعماً مادياً للاجئين، وفتحت المجال أمام الفلسطينيين للعمل والدراسة، ما خلق بيئة حاضنة لمشروع التحرر الفلسطيني. وكان لذلك أثر مباشر على غزة باعتبارها المركز الديمغرافي الأبرز للحركة الوطنية الفلسطينية.
وفي سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وفي ظل ما بعد هزيمة 1967، أخذ الدعم العراقي بعداً أكثر وضوحاً من خلال تقديم المساعدة العسكرية والتدريب والدعم اللوجستي لعدد من الفصائل التي كان لغزة حضور واسع فيها. ومع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، جاء الموقف العراقي داعماً بقوة للتحركات الشعبية في غزة والضفة، ومسانداً للأسر التي قدمت شهداء وجرحى، وهو ما جعل الخطاب العراقي في تلك المرحلة منسجماً مع المشهد النضالي اليومي الذي كانت غزة تقوده.
حتى في أصعب مراحل العراق خلال التسعينيات، ورغم الحصار الاقتصادي الذي أنهك البلاد، أبقى العراق على موقفه الثابت من دعم الفلسطينيين، مقدّماً مساعدات مالية منتظمة لعائلات الشهداء في غزة تحديداً، ومستمرّاً في إعلانه السياسي بأن فلسطين قضية لا يمكن التراجع عنها؛ هذا الثبات في الموقف، رغم الظروف، عزّز مكانة العراق في الوعي الفلسطيني بوصفه سنداً تاريخيّاً لا يتبدل.
ولم يكن الدعم العراقي مقتصراً على الدولة وحدها؛ فقد حمل الشعب العراقي فلسطين وغزة على وجه الخصوص في وجدانه من خلال الأدب والصحافة والمظاهرات والأنشطة الطلابية؛ ظهرت غزة في القصائد العراقية كرمز للكرامة العربية، كما حملت الصحف العراقية على مدى عقود خطاباً ثابتاً يتعامل مع غزة باعتبارها بوابة المشرق الأولى للمقاومة.
وهكذا، ومع نهاية القرن العشرين، كانت العلاقة بين العراق وغزة قد تشكّلت كحكاية ممتدة من الإسناد المتبادل، جذورها قومية وروحها إنسانية، وذاكرتها مشتركة. فمن بغداد إلى غزة، لم يكن الدعم العراقي مجرد موقف سياسي، بل جزءاً من تاريخٍ طويل يُثبت أن قضايا الأمة الكبرى لا تُصنع في البيانات الرسمية فقط، بل في ذلك الشعور العميق الذي يجعل مدينتين بعيدتين جغرافياً، متجاورتين في الوجدان.

























































