اخبار فلسطين
موقع كل يوم -وكـالـة مـعـا الاخـبـارية
نشر بتاريخ: ٢١ أيلول ٢٠٢٥
الكاتب:
وليد الهودلي
(قصة من وحي المعركة)
عبدُ المطلب القَيْسي يقود شاحنته محمَّلةً بالمساعدات لأهل غزّة الذبيحة. يشعر بالفخر ويشكر الله كثيرًا لأنّها كانت له فرصة ذهبيّة ليُسهم في إسناد غزّة. يستذكر أوّل رحلة له، وقد استغرقت شهرين قبل أن يُتاح له الوصول وإيصال المواد الطبيّة التي تسعى إلى سدّ عجز القطاع الطبي هناك. كانت رحلةً مريرةً ملأى بالجوع والبرد وملل الانتظار؛ ففي الظروف الطبيعيّة لا تحتاج الرحلة إلا ست ساعات ذهابًا وإيابًا، بينما استغرقتْه هو شهرين وهو ينتظر على الحدود. يستمع إلى الأخبار ويترقّب انفراجةً تتيح له الدخول إلى غزّة لإغاثة مشافيها والاستجابة لصرخات جرحاها، ومن هم على حافة الموت ينتظرون ما يخفّف آلامهم ويُسهم في معالجة جراحهم.
عبدُ المطلب يشكر الله من أعماقه على أن يسّر له هذا العمل الذي يُسهم في إغاثة غزّة الذبيحة، وقد قرّر أن تكون هذه الرحلة مختلفة عن سابقاتها. قرّر أن يُقدّم لغزّة ما هو مختلف؛ فلم يعد دوره كسائق شاحنة مساعدات كافيًا لريّ عطش روحه لما هو أسمى وأرفع. ويتذكّر كيف كانت موجات من الفاشيّين المتطرّفين الصهاينة تهاجم قوافل المساعدات بين الحين والآخر؛ تظهر قوات الأمن والشرطة الإسرائيليّة لمنعهم، وتبطن دعمهم، وتتيح لهم ممارسة تخريب الشاحنات والعربدة عليها والتطاول على سائقيها بأقذع العبارات النابية. كل رحلة كانت تمرّ بدرب الآلام والمهانة والتنكيل، وكان السائقون يحتجّون ويرسلون شكاواهم دون أيّة فائدة.
يتذكّر عبد المطلب فترات الانتظار الطويلة التي كان يقضيها على مشارف غزّة بين سماع أخبار المجازر فيها وقراءة القرآن أو سماعه، خاصّةً مع بزوغ الفجر حيث يكون مشهودًا في قلبه؛ تخرّ له مشاعره وتنساب روحه مع معانيه العظيمة. وكانت تقطع تأمّلاته القرآنيّة أصوات الانفجارات الهائلة التي تدمّر مربّعات سكنيّة في غزّة، فيحوقل ويدعو الله أن يُثبّت أهل غزّة وينصر مجاهديها.
كان يشعر بأنّ القرآن يتنزّل في قلبه وهو في نهاية العقد الخامس من عمره بطريقة مختلفة، تحرّك كلّ مكنوناته وتفجّر ما فيها من نخوة وعزيمة، وكأنّه يسمعها أوّل مرّة بما تطرح عليه من أسئلة ): انفروا خفافًا وثقالًا وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم .( لِمَ لا ننفر ونُجاهد؟ خدمتُ في الجيش حتى سنّ التقاعد ولم أُطلق رصاصة واحدة على هذا العدوّ المتوحّش المفترس، كانت تحدّثني نفسي. تراودني هذه الخواطر فترة خدمتي على الحدود، خاصّةً عندما يتعاظم العدوان على إخوتنا في فلسطين. فكّرت كثيرًا أن أسير على خُطى أحمد دقامسة الذي ثارت حميّته عندما سخرت فتيات عبريّات من صلاته ففتح نيران غضب بندقيته عليهن، وخطى سلطان العجلوني الفتى الأردني الذي انتصر لمجزرة الأقصى فتجاوز الحدود ودخل معسكرًا فاشتبك مع جنوده وقتل منهم وجرح وهو في سنّ لم تتجاوز السادسة عشرة من عمره. وتوقّفت طويلًا عند بطولة أحمد الجازي الذي فجّر قنبلة غضب أردنيّة فأطلق النار عليهم بكل شجاعة وجسارة. هذه الآية الكريمة تثير في داخله قصص مَن تلاها حقّ تلاوتها ونفر بها بما يحمل صدره من غضب وحميّة على ألدّ أعداء الله.
سارت به شاحنته وحماسته تأخذ بيده إلى حيث قرّر؛ وكل ما يمرّ بخاطره يمرّره على آية كريمة أرست قواعدها في قلبه، خاصّة تلك التي كان يقرؤها في لحظات الانتظار الطويلة. تخيّلوا مشاعره: يحمل مساعدات طبيّة لمشافي وجرحى غزّة بأشدّ الحاجة إليها، يسمع صوت آلامهم، لا يجدون ما يُسكت هذه الآلام، بينما هي معه في شاحنته، ولكن هناك عدوّ لئيم يمنعهم أيامًا وأسابيع وأشهرًا. يسمع التفجيرات الهستيريّة التي تُلقى عليهم من السماء والأرض والبحر، ثم يستمع لآيات من القنابل التي تفجّر النخوة وتثير الروح الإيمانيّة الإنسانيّة العظيمة، لتُخرج أعظم ما فيها من نُبل وتضحية وفداء)وما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض). عبد المطلب يشعر بأنّه بهذه الآيات يحلّق عاليًا ولا يثّاقل أبدًا إلى الأرض، بل تتوق روحه للشهادة؛ شهادةً على المتثاقلين وشهادةً له عند رب العالمين.
تصل إلى مسامعه أخبار قمّة عربيّة وإسلاميّة، يتابعها دون أن ينتابه أيّ أمل فيها. في حياته تابع أخبار كثيرة عن القمم دون أيّة فائدة تُرجى من زعامات خارت فيها كلّ القيم. يرى فيها تجسيدًا للعبارة القرآنية: (كره الله انبعاثهم فثبّطهم). ويرتدّ بالسؤال على نفسه:
• هل كره الله انبعاثك يا عبد المطلب؟ أين تجد همّتك، مع غزّة الذبيحة أم مع أعدائها الذين أراك الله إجرامهم بعينك وسمعت زمجرتهم بأذنك الواعية؟
• ألا يكفيك أن يسّر الله لك أن تقود شاحنة توصل لإخوانك المساعدات الإنسانيّة؟
• لم يعد هذا كافيًا؛ فالجريمة تعاظمت وبلغت عنان السماء. بإمكاني أن أفعل ما هو أفضل. هذه الدول وهذه الجيوش والشعوب تنتظر من قمّة الهمل شيئًا من العمل، ويجب أن تواجه بحقيقة أن كلّ منّا يستطيع أن يدخل دائرة الإرادة والعمل.
وصلت الشاحنة حيث وصلت إليه الروح التي انصهرت بكليّتها مع المعاني القرآنيّة التي تعلو بالهمم وتُخرج من النفوس إرادة الشعوب الحرّة الصادقة مع نفسها ومع أخوّة الدين وخير قضيّة أُخرجت للبشر. وصلت حيث الاشتباك مع الروح الشريرة يبلغ ذروته، وصلت حيث تخرج القلوب أثقالها وتتحرّر من آصارها وأغلالها، تشفّ وتنير وتنطلق بكلّ قوّتها وعنفوانها. ركن شاحنته عند مركز تفتيش الذلّ والعار الذي تمارسه قوّات الاحتلال لتعطيل خطّ سير المساعدات بكل ما فيهم من خبث وصلف؛ يتبجّحون ويصرّون على إجراءات بليدة مريعة تستمر أيّامًا طويلة، ولهم من الحجج لإرجاع الحمولة ما لا يتخيّله بشر.
في لحظةٍ اشتبكت فيها إرادة المساعدات الإنسانيّة مع إرادة الخبث الشيطانيّة، ترجّل عبد المطلب بكل ما فيه من إرادة حرّة عزيزة كريمة، وأخرج لهم كلّ غضبه، وشرع يطلق النار من مسدّس نجح في تهريبه؛ يصوّب على الرؤوس فتتهاوى أمامه كتل الشر بما تحمله من خبث وقهر. تساقطت أمامه كتل يتكدّس فيها الحقد الذي لا يُعرف له حدّ.
اعترفوا بقتيلين ومجموعة جرحى. أصابه رصاصهم بعد أن أوصل رسالته على أبلغ الصور وأصدق ما يكون به الخبر.