اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٦ تموز ٢٠٢٥
بثت المقاومة في الساعات الماضية مشاهد تاريخية لواحدة من أكثر عملياتها نوعيةً ضمن سلسلة 'حجارة داود' التي أظهرت عنفوانًا وروحًا تعرضيّةً لدى مجموعة من مقاتليها الأفذاذ، إذ تكثّفت في دقائق معدودة معاني الإيمان العميق والإقدام الجريء والحضور لآيات القرآن واستقدام روح الثأر لمشاهد الدمار والقتل، وفي أجزاء الثواني التي تحمل الدعاء والإجابة في آنٍ معًا حين يدعو المقاتل بالتمكين والسداد في هذه الضربات، فتشتعل آليات الحديد وتنصهر خاضعةً تحت قدميه، ولا تسعه الأرض فرحًا ونشوةً بعد أن أذاق عدوّه بعضًا من بأس أبناء داود وقدّم ثمنًا معجّلًا لفظائع ارتكبها عدوّه في أهله ودياره.
في كلمته بعد مرور مئتي يوم على الحرب قال أبو عبيدة: 'مئتا يوم ومقاومتنا في غزة راسخةٌ رسوخ جبال فلسطين، حيث لا جبال في غزة إلا رجالها الأبطال وشعبها العظيم ومقاتلوها المؤمنون الشجعان'، وبعد أكثر من 400 يوم على هذه الجملة جاءت هذه المشاهد في بيئة جغرافية يستحيل معها عمل عسكري تقليدي أو ما يشبه التقليدي في مواجهة أعتى قوة تكنولوجية حديثة، حيث لا عمق إستراتيجي لبيئة غزة ولا يضم هذا الشريط الضيق جبالًا أو أودية يناور فيها المقاتلون، ولا يملكون فيها ظهيرًا يمدهم بجسور السلاح والعتاد، ولكنهم ملكوا إرادةً وحقًا طوّعوا له كل قوانين الطبيعة وصنعوا جبالًا من البشر ومتاريس من الرجال الذين بقوا ثابتًا وحيدًا يفاخر به أهل غزة العالم بأسره في عصف هذه الأحداث والأهوال.
تكتيك العمل الفدائي ودلالاته الميدانية:
يشير مصطلح 'العمل الفدائي' إلى العمليات القتالية التي ينفذها المقاتلون لإلحاق أكبر قدر من الضرر بالعدو، وغالبًا ما تنطوي هذه العمليات على مخاطرة عالية جدًا تصل إلى الاستشهاد، حيث يكون المقاتل مستعدًا للتضحية بحياته في سبيل تحقيق الهدف، ولهذا العمل خصائص وفاعلية عالية في الميدان عندما تكون هناك فجوة كبيرة في القوة العسكرية أو التسليح بين الأطراف المتحاربة، مما يجعل العمليات التقليدية صعبة أو مستحيلة، وإضافة إلى الخسائر المادية، يهدف العمل الفدائي إلى إحداث تأثير نفسي ومعنوي كبير على العدو والمجتمع المحيط، سواء كان مؤيدًا أو محايدًا.
وفي ظل ندرة السلاح الموجّه عن بُعد وانحسار الإمكانيات التسليحية في عبوات هندسية يُعاد تدويرها من مخلفات الاحتلال الحربية، تُفعّل المقاومة 'العمل الفدائي' كرت رهانها الذي لا يخسر أبدًا والذي استثمرت فيه عقودًا من التربية والتدريب والذي يتسابق عليه أبناؤها بكل إقدام وثقة، والذي يعني أن يتقدم المقاتل بلحمه ودمه بلا درع ولا غطاء جوّي وهو يحمل ما تيسر له من أسباب القوة ليواجه أعتى مدرعات العالم والتي يحميها غطاء جويّ على مدار الساعة ومستشعرات ترصد كل حركة في محيطها إلا أنها تقف جامدةً عن الحركة حتى يكسوها مقاتلنا بثوب النار الذي يليق بها، أو أن تفرّ أمامه صاغرةً وتهيم على وجهها، في أعجب ما قد توثقه علوم البشر العسكرية منذ قرون.
وفي أثر هذا التكتيك على العدوّ ومنذ انطلاق عمليات حجارة داود قيّم جيش الاحتلال أن المقاومة في غزة أظهرت في الأيام الأخيرة “جرأة أكبر” في القتال، وسط صعوبات ميدانية متزايدة تواجهها قوات الاحتلال هناك، فالمقاومون الذين اعتادوا سابقاً التواري والتمركز الدفاعي، باتوا يظهرون رغبة أكبر في مهاجمة قوات الجيش، وهم بكامل تسليحهم، وبالرغم من التسليح الخفيف والمتوسط بحوزتهم فإن معرفتهم المسبقة بمواقع القوات وثغرات تمركزها تمكنهم من إلحاق خسائر غير محتملة في صفوف عديد القوات وعتادها، ووفقًا لمصدر رفيع في جيش الاحتلال صرّح لهيئة البث العبرية: 'ثمة تحول في النمط القتالي برز بشكل أكثر وضوحًا بعد المعركة الأخيرة مع إيران الشهر الماضي، خصوصاً في جبهتي خان يونس جنوباً، والشجاعية وجباليا شمالاً على مقربة من تخوم مدينة غزة'.
ومما لا شكّ فيه أن لهذه المشاهد انعكاساتها على صانع القرار لدى الاحتلال الذي سيضطر للعمل على أي خيار يخرجه من حلقة النار داخل أرض غزة في أسرع وقت ممكن، في ظل تحقيق هذه العمليات لخسائر كبيرة في صفوف جنوده (قتل 20 ضابط وجندي خلال يونيو 2025 في أعلى معدل خسائر منذ بداية العام الجاري) ولتقريب وفهم دلالة هذا الرقم على صانع القرار لدى الاحتلال تاريخيًا فإن انسحابه من جنوب لبنان عام 2000 م بعد 18 عام من احتلاله كان بسبب معدل قتلى سنوي بلغ 20 جنديًا، وفي ثنايا قرار الانسحاب من قطاع غزة عام 2005 بلغت حصيلة قتلى الجيش بين عامي (2000-2004) 97 جنديًا بمعدل تقريبيّ يبلغ 25 جنديًا سنويًا.
ولربما لم يتسنَ اليوم لأكثر أهل غزة ومحاصريها ومكلوميها وسكان خيمها الذين أثقلت جراح الحرب صدورهم وشغل فضاؤها عقولهم، أن يشاهدوا ما صنع أبناؤهم ورجالهم في أعتى قوة حديثة منذ اليوم الأول لهذه الحرب وحتى يكتبوا آخر فصولها، ولكنهم سيقفون سنين طويلة أمام ذلك المجد الذي صنعوه بدمهم ولحمهم في صحائف التاريخ عاجلًا أو آجلًا، وستشفي تلك المشاهد صدورهم وهم يتفقدون حطام آليات العدوّ بين ركام منازلهم، ليدشنوا مع رجالهم مرحلة جديدة تتسيّد فيها غزة التاريخ والحاضر والمستقبل.
وفي هذا السياق قدّم الصحفيّ والكاتب يوسف فارس من شمال غزة شهادته لواقع وأداء رجال المقاومة في غزة بقوله: 'في غزة مقــاومة شهيدة، قدمت كل ما لديها خلال ٢١ شهراً من القتال، لا احتياطي سلاح ولا ذخر بشري، ولا خطط سرية طويلة الأمد، لدينا رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فـ ثبتهم وسط جحيم القصف، وأمدهم بجلد وروح لا تهزمها النوائب، المشاهد التي تنشر يومياً هي مصداق المعجزة التي لا تخضع لحسابات المادة'.