اخبار فلسطين
موقع كل يوم -وكـالـة مـعـا الاخـبـارية
نشر بتاريخ: ٢١ أيلول ٢٠٢٥
الكاتب: أيوب عليان
في زمن تتسارع فيه المعرفة وتتشابك فيه التحديات، لم يعد الكتاب وحده كافيًا ليحمل أحلام أبنائنا، ولم تعد الحصة الدراسية وحدها قادرة على احتواء شغفهم بالمعرفة. اليوم، يطل علينا مفهوم مصادر التعلّم المفتوحة ليغدو ' نافذة رحبة' تكسر حدود الجغرافيا والزمان، وتمنح الطالب والمعلم وولي الأمر فرصة لأن يكونوا شركاء حقيقيين في بناء تعليم أكثر عدالة وابتكارًا.
لم يعد التعليم في عصرنا الحديث محصورًا داخل جدران الصفوف الدراسية أو بين دفّتي الكتب التقليدية، بل أصبح فضاءً واسعًا يتداخل فيه الرقمي مع الواقعي، وتتلاقى فيه التجارب المحلية مع العالمية، وفق رؤية تتيح توظيف المنهاج بمعناه الأوسع الذي لا يقتصر على الكتاب المقرّر. وفي قلب هذا التحوّل برزت مصادر التعلّم المفتوحة (Open Educational Resources – OER) باعتبارها أحد أهم الابتكارات التي أسهمت في إعادة صياغة مفهوم الوصول إلى المعرفة، بحيث بات متاحًا للجميع دون حواجز مادية أو قانونية.
بواقعية، يمكن القول إن هذه المصادر لا تُعد مجرد مواد تعليمية مجانية على شبكة الإنترنت، بل هي منظومة متكاملة تتيح للطالب والمعلم وولي الأمر فرصًا غير مسبوقة للتعلم، والتعليم، والمتابعة، والبحث، وبما ينعكس إيجابًا على جودة العملية التعليمية واستدامتها.
فهي للطالب _ رحلة تعلم بلا حدود_ كونه محور العملية التعليمية وغايتها. وهنا تأتي مصادر التعلم المفتوحة تمنحه فرصًا واسعة للنمو والتطور. فهي تتيح له:
الوصول المجاني للمعرفة بعيدًا عن كلفة الكتب أو المواد التعليمية، ما يعزز العدالة بين الطلبة من مختلف البيئات الاجتماعية والاقتصادية.
التعلم الذاتي المرن، حيث يمكنه أن يتعلم وفق وتيرته الخاصة، ويعود إلى المادة متى شاء، ويعيد المحاولة إلى أن يتقن المهارة أو المفهوم المطلوب.
التعرض لمصادر متنوعة (كتب رقمية، مقاطع فيديو، محاكاة، منصات تفاعلية)، تراعي اختلاف أنماط التعلم وتثري التجربة التعليمية.
تعزيز الإبداع والاستقلالية، إذ يتحول الطالب من متلقٍ سلبي إلى متعلم فاعل يبحث ويقارن ويبتكر حلولًا.
تقليل الفجوة التعليمية، فالمصادر المفتوحة تساعد الطلبة في المناطق المهمشة أو التي تفتقر إلى الإمكانيات في الحصول على مواد تعليمية تضاهي أرقى ما هو متاح عالميًا.
أما المعلم _ الشريك الفاعل والمطور للمعرفة_ فهو قائد التغيير في الصف، ومصادر التعلم المفتوحة تمدّه بأدوات ترفع من كفاءته وتفتح أمامه آفاقًا جديدة. فهي تمكنه من:
تنويع أساليب التدريس من خلال دمج نصوص ومقاطع مرئية وأنشطة عملية تعزز المشاركة والتفاعل.
توفير الوقت والجهد عبر إعادة استخدام موارد جاهزة أو تعديلها بما يتناسب مع بيئته الصفية.
التطوير المهني المستمر، إذ يطّلع على موارد تعليمية من مؤسسات عالمية رائدة، ما يوسع مداركه المهنية ويحفّزه على التجديد.
إثراء العملية التعليمية بطرق مبتكرة، مثل التعلم القائم على المشروعات، أو التعلم النشط، أو التقييم التكويني المدعوم بوسائط تفاعلية.
التخصيص حسب حاجات الطلبة، حيث يمكن تكييف المادة بما يلائم مستويات مختلفة داخل الصف الواحد، وهو ما يسهم في تقليص الفجوة بين المتفوقين من جهة، وذوي القدرة الأقل على التحصيل من جهة أخرى.
لا يقف الأمر عند هذا الحد، إذ لا يقتصر أثر المصادر المفتوحة على الطالب والمعلم، بل يمتد ليشمل ولي الأمر باعتباره شريكًا أساسيًا في المسيرة التعليمية. فهي تمنحه:
نافذة لمتابعة تعلم أبنائه، من خلال الاطلاع على المواد التعليمية ذاتها التي يستخدمها الطالب في المدرسة أو المنزل.
أدوات لدعم التعلم المنزلي، إذ يستطيع مساعدة ابنه في مراجعة الدروس أو إثراء معارفه من خلال مصادر مفتوحة وموثوقة.
تعزيز الثقة بدور الأسرة في العملية التربوية، فالبيت لم يعد مكانًا للمذاكرة فقط، بل شريكًا فاعلًا في بناء المعرفة وتنمية القدرات.
تقوية العلاقة بالمدرسة والمعلم، من خلال إدراك طبيعة الموارد المستخدمة وأهدافها، ما يخلق انسجامًا أكبر في الأدوار.
ولأن هذه الشراكة – وهي بالمناسبة ركيزة أساسية_ لا تكتمل إلا بامتلاك الطالب لمفاهيم ومهارات وكفايات مستقبلية، فإننا نجد أنه وفي ظل في عصر يتسم بتسارع غير مسبوق في العلوم والتكنولوجيا، تغدو الحاجة ملحّة إلى إعداد طلبتنا بمفاهيم ومهارات وكفايات تمكّنهم من تطوير ذواتهم ومواكبة المتغيرات المتسارعة.
في هذا الإطار، لا بد من التأكيد أن ثمّة مفاهيم يجب أن يتبناها الطالب، يتمثل أبرزها في: التعلم المستمر، والابتكار والإبداع، والتكيف مع المستجدات، والمواطنة الرقمية، والاستدامة والمسؤولية المجتمعية. وعلى مستوى المهارات، فإن إتقان التفكير الناقد، وحل المشكلات، والبحث العلمي، والمهارات الرقمية، والقدرة على العمل التعاوني، والتواصل الفعّال، فضلاً عن إدارة الوقت والتنظيم الذاتي يشكّل أساسًا للتفوق والتميز. وعندما تتكامل هذه الجوانب المعرفية والمهارية، تتحقق الكفايات المستقبلية التي نطمح إليها، مثل: الكفاية الرقمية والعلمية والابتكارية، والقدرة البحثية، والقيادة، والانفتاح العالمي.
يمثّل الاستثمار في هذه الركائز حجر الزاوية في تمكين الطالب من مواجهة تحديات الحاضر، والمشاركة بفاعلية في صياغة مستقبل أكثر إشراقًا لوطنه ومجتمعه، وهنا تبرز المسؤولية المشتركة، فعلى عاتق المعلم تقع مسؤولية توجيه الطلبة نحو التعلم الفاعل، في حين تناط بولي الأمر مهمّة رعاية وأبنائه ودعمهم، دون إعفاء الطالب من تحمّل مسؤولية تطوير ذاته؛ فالجميع شركاء في صناعة جيل قادر على التغيير والإبداع في عالم سريع التحول، وهو ما يدفع للقول إننا إزاء منحى يعزز المشاركة باعتبارها ثقافة تُعاش، وممارسة عملية.
على المستوى الكلي للمنظومة التعليمية، يعزز هذا المنحى الاستدامة والكفاءة والجودة حيث تمثل مصادر التعلم المفتوحة إضافة نوعية للمنظومة التعليمية، إذ تسهم في:
خفض التكاليف عبر تقليل الاعتماد على الكتب المطبوعة والمناهج باهظة الثمن.
تحسين جودة التعليم من خلال إتاحة موارد حديثة، متنوعة، وقابلة للتحديث المستمر.
تعزيز التعاون المؤسسي بين المدارس والجامعات والمراكز التربوية عبر تبادل الموارد والخبرات.
ضمان المرونة والاستدامة، خصوصًا في أوقات الأزمات والطوارئ، حيث يمكن مواصلة التعليم عن بُعد باستخدام هذه الموارد.
ترسيخ مبدأ العدالة التعليمية، بحيث لا يُحرم أي طالب من حقه في التعلم بسبب الظروف الاقتصادية أو الجغرافية.
في المحصلّة، دعونا نسير نحو رؤية تعليمية متجددة، تنطلق من قناعة بأن مصادر التعلّم المفتوحة ليست مجرد خيار تقني أو بديل رقمي، بل هي رؤية جديدة للتعليم قوامها الانفتاح، والتشاركية، والابتكار، فهي تمكّن الطالب من أن يكون أكثر استقلالية، وتتيح للمعلم لأن يكون أكثر إبداعًا، وتفرد مساحة لولي الأمر ليكون أكثر قربا من المشهد، وأكثر دعمًا، فيما تضمن للنظام التعليمي كفاءة أعلى واستدامة أوفر.
يشكّل تبني هذه المصادر على نطاق واسع استثمارًا معرفيًا لمستقبل أبنائنا، وخطوة عملية نحو تعليم أكثر عدالة وابتكارًا وجودة، فبها نصنع جيلًا قادرًا على مواجهة تحديات العصر، والإسهام الفاعل في بناء مجتمع المعرفة والتنمية المستدامة، وهو ما يتقاطع للطالب الذي نريد، وللنظام التعليمي الذي نصبو، فقد حان الوقت لمراجعة نقدية تنأى بنا عن رفض أي جديد لكونه جديدا، وعلينا ألّا ننسى أن كل قديم كان جديدا في حينه.