اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ١٩ تشرين الأول ٢٠٢٥
حين يحاول الغياب أن يبتلع الذاكرة، وتتحول الحكاية إلى ظلٍّ باهتٍ على جدار النسيان، يبقى هناك من يقف ليقول “أنا شاهدٌ على ما كان”، في فلسطين لم تكن الكاميرا مجرد آلة تصوير، بل كانت شاهدًا وشهيدًا، تحمل في داخلها وجع الوطن ومقاومته.
ومن بين أولئك الذين اختاروا أن يقفوا في وجه النسيان بعدستهم، يبرز اسم صالح الجعفراوي، المصور الذي جعل من الصورة فعلًا وطنيًا، ومن الضوء سلاحًا لمواجهة التزوير، كانت عدسته عينًا فلسطينيةً ترى العالم من خلف الركام، وتعيد للحكاية نبضها كلّما حاول أحدٌ دفنها.
لقد أدرك الجعفراوي، منذ بداياته، أن الصورة ليست لحظةً جمالية فحسب، بل وثيقة تاريخية تروي ما لا تستطيع الكلمات قوله، وتؤكد أن الذاكرة ليست ملكًا للمنتصرين فقط، بل لمن ظلوا أوفياء للحقيقة.
في زمن النكبة، ومنذ أن دوّت أولى رصاصات عام 1948، لم تكن الكلمة وحدها في ميدان المعركة، بل كانت العدسة أيضًا بندقية من نوعٍ آخر ، بندقية الوعي، أدرك الجعفراوي أن الاحتلال لا يسرق الأرض فقط، بل يسعى لسرقة السردية، لطمس الملامح، ولإعادة كتابة التاريخ من وجهة واحدة، لذلك حمل كاميراه كما يحمل المقاوم سلاحه، وجال بين الركام والدموع، يوثّق المأساة الفلسطينية في صورٍ تحكي ما عجزت الكلمات عن قوله.
كانت فلسطين مسرحًا للمأساة والتهجير، وعيون العالم تتغافل عمّا يجري، لكن عدسة الجعفراوي لم تغفل، إذ راحت توثّق تفاصيل الجرح الفلسطيني في وجوه الناس، في الطرقات الموحلة، وفي صمت المخيمات الأولى، لم يكن ذلك عملًا صحفيًا عابرًا، بل موقفًا وطنيًا ضد محو الوجود.
كانت الكاميرا بالنسبة إليه أشبه ببندقية، لكنّها تطلق رصاص الضوء بدل النار، في كل صورة التقطها، كان يقاتل من أجل الحقيقة، ومن أجل أن يظل الفلسطيني يرى نفسه في أرشيف التاريخ لا في هوامشه، وهكذا ولدت من صوره ملامح ما يمكن تسميته بـ “صحافة الشهادة” ، صحافة تقف على خط النار، لا لتصنع خبرًا، بل لتشهد على جريمة، وتقول: “هنا كان شعبٌ، وهنا ما زال.”
فحينما نعود إلى أرشيف الجعفراوي، نجد أن صوره ليست مجرد توثيقٍ لأحداث عام 1948، بل خريطة ألمٍ وذاكرة. تظهر في صوره القرى المهدّمة، والنساء اللواتي حملن مفاتيح البيوت، والأطفال الذين ساروا حفاة على طرق المنفى، كل تفصيلة فيها تصرخ بأن النكبة ليست ماضيًا منسيًا، بل حاضرًا متجددًا.
لقد استطاع الجعفراوي أن يحوّل الكارثة إلى سرد بصريٍّ يرفض النسيان، صوره من اللد ويافا وحيفا لا توثّق الخراب فقط، بل توثّق الكرامة أيضًا ، كرامة الإنسان الفلسطيني الذي تمسّك بحلمه رغم التهجير، لقد كان يؤمن بأن الصورة يمكن أن تكون ذاكرة جماعية تعيد للوجدان الفلسطيني حقّه في السرد، وتواجه الرواية الصهيونية التي سعت إلى تقديم الفلسطيني كـ”غائب” بلا وجود.
في عالم ما بعد النكبة، تغيّر كل شيء: الأرض، الهوية، وحتى اللغة. لكن الصورة بقيت الوثيقة الأصدق في وجه التزييف. أدرك الجعفراوي مبكرًا أن كل لقطة يحملها في فيلمه الفوتوغرافي هي وثيقة إدانة للتاريخ المزور، وأن حفظها يعني حماية الذاكرة من الضياع.
كان يقول: “الصورة التي لا تُلتقط اليوم، قد لا تُلتقط أبدًا، والحدث الذي لا يُوثّق كأنه لم يكن.”
بهذا الإيمان، واصل عمله بين الأنقاض، يصوّر اللاجئين في المخيمات، ويوثّق حياة الفلسطينيين في المنافي، ليقول إن النكبة لم تنتهِ بانتهاء الحرب، بل تحوّلت إلى حالة مستمرة من المقاومة بالذاكرة.
ولأن الجعفراوي لم يكن مصورًا محايدًا، فقد مثّل نموذجًا لما يمكن تسميته بـ الصحفي المقاوم، الذي لا يكتفي بسرد المأساة، بل يجعل من عمله مشاركة في الدفاع عن الحق.
في زمنٍ تتسارع فيه محاولات طمس الذاكرة الفلسطينية، تبقى أعمال الجعفراوي جدارًا في وجه المحو، فبينما تُروّج بعض وسائل الإعلام روايات مشوهة عن النكبة، تبقى صوره شاهدًا بصريًا لا يمكن إنكاره.
لقد جعل من الصورة أرشيفًا للمقاومة، ومن الوجوه التي وثّقها صفحاتٍ من كتاب الوجود الفلسطيني.
ليس غريبًا أن يُنظر إلى أعماله اليوم كجزءٍ من التراث الوطني الفلسطيني، إذ إن كل لقطة التقطها كانت بمثابة شهادة حية على أن الأرض تتحدث، وأن الذاكرة لا تموت ما دامت تُروى.
فالجعفراوي لم يترك لنا مجرد صورٍ، بل ترك بوصلة وعيٍ جماعي تقول للأجيال القادمة: “أن توثّق يعني أن تقاوم.”
امتدّ تأثير الجعفراوي إلى أجيالٍ من المصورين الفلسطينيين الذين واصلوا طريقه، فكل مصورٍ اليوم يوثّق حصار غزة، أو هدم بيتٍ في القدس، أو اعتداءً في الضفة، إنما يسير على خطى أولئك الذين جعلوا من الصورة ذاكرةً للمستقبل.
من خلال إرثه، تكرّست قناعة بأن العدسة الفلسطينية ليست شاهدًا صامتًا، بل فاعلًا في معركة الوعي، وأن التوثيق جزء من المقاومة.
حين ننظر اليوم إلى صور الجعفراوي، نشعر أننا لا نرى مشاهد من الماضي، بل نرى تاريخًا حيًا ما زال يتنفس، فكل وجهٍ في صوره يروي قصة شعبٍ لم يستسلم، وكل بيتٍ مهدّم يصرخ بأن الأرض تعرف أصحابها.
لقد خاض الجعفراوي معركته الخاصة ضد الزمن، وانتصر لأن ما وثّقه أصبح ذاكرة الأمة الفلسطينية.
في زمنٍ تتسارع فيه النشرات والأخبار، تبقى صوره ثابتة كصوتٍ صامتٍ لكنه أكثر بلاغة من آلاف الكلمات.
وإذا كانت الكلمة الفلسطينية هي سلاح الوعي، فإن عدسة الجعفراوي كانت سلاح الذاكرة ، الذاكرة التي لا تموت، ما دام هناك من يحمل كاميراه ويقول: أنا شاهدٌ على ما لم يُكتب.
هكذا يبقى الجعفراوي مثالًا للصحافة المقاومة التي جعلت من الصورة وثيقةً ومن العدسة سلاحًا في وجه النسيان، فبجهوده وجهود أمثاله، لن تُمحى حكاية النكبة ولا ملامح الحقيقة التي حاول الاحتلال طمسها، ما دامت الكاميرا تقاوم، والذاكرة تُوثّق.

























































