اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ٢٥ تموز ٢٠٢٥
المهندس أحمد عامر حدارة
يشهد الإقليم تحولات متسارعة في موازين القوى والعلاقات الاستراتيجية، تتقاطع فيها المصالح الجيوسياسية والاقتصادية والأمنية للدول الكبرى والفاعلين الإقليميين. فالمشهد الإقليمي لم يعد يُقرأ فقط من زاوية الصراعات العسكرية المباشرة أو الملفات النووية، بل أصبح مرتبطًا بسياقات أوسع تشمل إعادة رسم التحالفات، وبناء شبكات اقتصادية عابرة للحدود، وتبدّل في أولويات اللاعبين الأساسيين.
في هذا السياق، يمكن ملاحظة دينامية متزايدة في العلاقات بين القوى الخليجية ودول الشرق الأوسط، سواء عبر مشاريع استثمارية كبرى، أو انخراط دبلوماسي أكثر فاعلية في تسويات الأزمات، أو توجّه نحو نماذج تنموية تستند إلى الابتكار والانفتاح. ومن اللافت أن هذه التحولات تسير بوتيرة أسرع مما اعتاده الإقليم في العقود الماضية، ما يعكس انتقالًا حقيقيًا من منطق إدارة الأزمات إلى منطق بناء الاستقرار طويل الأمد.
لبنان، كبلد يجاور بؤر التوتر لكنه يتأثر بها بشكل مباشر، يجد نفسه أمام استحقاقات كبيرة. فهو في آنٍ معًا يعاني من أزمة داخلية عميقة ذات أبعاد مالية واقتصادية واجتماعية، ويواجه تحديات متراكمة في بنيته الإدارية والسياسية، وفي الوقت نفسه يتأثر بشدة بما يجري من إعادة تشكيل في المنطقة. من هنا، تبدو الحاجة ملحّة لأن يعيد لبنان صياغة موقعه الاستراتيجي، لا عبر الانكفاء، بل من خلال الانخراط الذكي في مسارات الاستقرار والتنمية الإقليمية.
من الناحية العملية، يمكن للبنان أن يتحوّل إلى شريك فاعل في خارطة الشرق الأوسط الجديدة، لكن ذلك يستدعي أولًا إعادة هيكلة شاملة للدولة، تقوم على ثلاثة محاور أساسية: إصلاح الحوكمة، تحفيز الاقتصاد الإنتاجي، وتعزيز اللامركزية الإدارية. وهذه المحاور لا تأتي فقط من باب الإنقاذ الداخلي، بل تشكّل شرطًا موضوعيًا للتكامل مع المشروعات الخليجية الواسعة التي ترتكز على مفاهيم الكفاءة، الشفافية، والتحوّل الرقمي.
ضمن هذا الإطار، تمثّل منطقة عكار نموذجًا واضحًا للفرص الضائعة والإمكانات الكامنة. فهي من أفقر المناطق اللبنانية رغم ما تزخر به من موقع جغرافي استراتيجي، ثروات طبيعية، وطاقات بشرية شابة. وفي ظل توجّه المنطقة نحو الاستثمار في المدن المستدامة، والاقتصاد الأخضر، والبنى التحتية الحديثة، يمكن لعكار أن تتحوّل إلى مركز تنموي متكامل شبيه بتجارب ناجحة مثل دبي، شريطة أن يتم العمل على خلق بيئة مؤسسية جاذبة، واستقرار أمني، واستثمار مباشر في القطاعات الحيوية كالنقل، الطاقة المتجددة، والزراعة الذكية.
الدول الخليجية، بما تمتلكه من خبرات تنموية ورؤى استراتيجية طموحة، تظل شريكًا محوريًا في هذا المسار. فالاهتمام الخليجي المتجدد بلبنان، سواءٌ من خلال الدعم الإنساني أو الإشارات الإيجابية تجاه إعادة الإعمار والاستثمار، يُعدّ فرصة تاريخية لربط لبنان بمنظومة تنموية عربية واسعة تتجاوز منطق المساعدات الآنية إلى منطق الشراكات الاستراتيجية.
في المحصلة، لا يمكن للبنان أن ينأى بنفسه عن التغيّرات الكبرى الجارية من حوله، كما لا يمكنه أن يستمر في سياسة الانتظار أو التردد. إن المطلوب اليوم هو قرار وطني ناضج، يستند إلى وعي بالتحديات والفرص معًا، ويضع البلاد على سكة التفاعل الإيجابي مع التحولات الإقليمية والدولية، في سبيل استعادة عافيته ودوره الحضاري والتاريخي.