اخبار لبنان
موقع كل يوم -المرده
نشر بتاريخ: ١٠ تشرين الثاني ٢٠٢٥
لم يعد الفضاء الرقمي في لبنان مساحة للتعبير أو النقاش، بل تحوّل في السنوات الأخيرة إلى ساحة مواجهة مفتوحة، تُخاض فيها المعارك بالكلمات والصور والميمز بدلاً من البنادق. فعلى منصّات التواصل، ولا سيّما 'فايسبوك'، ينقسم اللبنانيون كما لو أنّهم على جبهات حربٍ أهلية مصغّرة، تتبدّل ساحاتها بتبدّل الترندات، وتتصاعد حدّتها مع كل حدث سياسي أو أمني.
في هذا التحقيق، تفتح 'الديار' ملف الانقسام الرقمي، وتصاعد الخطاب المتشنّج على مواقع التواصل، عبر سلسلة مقابلات مع متخصصين وصحافيين تابعوا الظاهرة عن قرب، وحاولوا فهم ما يدفع اللبناني إلى القتال من خلف الشاشة، وكأن 'الهوية الرقمية' صارت معركة بحد ذاتها.
هوية رقمية في مواجهة الآخر
تقول المتخصّصة في الإعلام الرقمي والتحوّل الإعلامي فاطمة شقير، إنّ ما يجري على المنصّات 'ليس نقاشات فعلية، بل مساحات هوية'. وتوضح: 'كل شخص
للهوية، يتحوّل النقاش فوراً إلى معركة'.
تضيف: 'أنّ البيئة نفسها – التعليقات، الجمهور، واللايكات – تُغذّي هذا الاستقطاب، بدل أن تخلق مساحة آمنة للحوار'. وتقول 'كثيرون خجولون في حياتهم الواقعية، لكنّهم يتحوّلون على السوشال ميديا إلى أشخاص منطلقين، وأحياناً عنيفين. الذات الرقمية صارت انعكاساً لظروف الشخص وخلفيته'.
الخوارزميات… وقود الحرب الرقمية
تُرجع شقير جزءاً كبيراً من هذا التصعيد إلى آليات المنصّات نفسها، فتشرح: 'الخوارزميات تعمل على مبدأ التحفيز المستمر، أي أنها تعطيك المحتوى الذي يشدّك أكثر حتى لو كان مستفزاً، وبدل أن توسّع أفقك، تعزّز فقاعتك'.
وتضيف أن 'الترويج المدفوع يحوّل أي خطاب متطرّف إلى حملة منظّمة بكم نقرة، بينما تخلق المجموعات المغلقة غرف صدى تغذّي مشاعر 'نحن ضدهم''. وترى 'أن المحتوى السريع والمشحون بالعاطفة هو الأكثر خطراً، ففيديوهات قصيرة تحمل لغة جسد حادّة أو عناوين من نوع 'الفضيحة الكبرى'، أو حتى الميمز السياسية الساخرة من الطرف الآخر، كلّها تعمل كشرارة تُشعل ردود فعل متتالية وتراكم غضباً جماعياً'.
منصّات تكافئ الغضب
وعن مسؤولية المنصّات، تقول شقير إن 'المطلوب ليس فقط حذف المحتوى المحرّض، بل إعادة هندسة المنظومة التي تكافئ الغضب والانقسام'. فالمنصّات – كما تؤكد – تربح من التفاعل بغضّ النظر عن نوعه، 'ولذلك فهي تشجّع الاستقطاب بدل تهدئته'.
وتشدّد على أنّه 'يجب الانتقال من منطق 'الانتشار أولاً' إلى 'السلامة أولاً'، عبر خوارزميات تحفّز الحوار المسؤول، وتعاون فعلي مع مؤسسات المجتمع المدني المحلية، التي تفهم حساسية السياقات الثقافية. لكن، هل تفعل المنصات ذلك اليوم؟ هذا هو السؤال'.
الصحافة في اختبار 'السوشال ميديا'
بالنسبة إلى الصحافيين، تشير شقير إلى أنّهم يواجهون تحدّياً مركّباً، قائلة: 'السرعة مقابل الدقّة، فالصحافي مضطر الى ملاحقة الترندات الرقمية التي تتبدّل كل ساعة، وغالباً ما تُبنى على عواطف لا على حقائق. كما أن أي حياد قد يُفهم كخذلان، ومع الوقت يفقد النقل الإعلامي معاييره الأخلاقية، لأنّ 'السوشال ميديا' تحوّلت إلى ميدان حرب لا إلى منصة نشر'.
وتقترح حلولاً تبدأ من التربية الرقمية العاطفية، مشيرة الى أنه 'يجب أن نعلّم الناس أن يقرؤوا المحتوى بوعي عاطفي قبل أن يشاركوه، وأن نفهم أثر الكلمة الرقمية على حياة الناس. كذلك من المهم دعم المنصات الإعلامية المستقلة، التي تتبنّى خطاباً جامعاً لا منقسماً'.
الانقسام ينسحب من الشارع الى الشاشة
من جهته، يرى الصحافي عباس فنيش أنّ الانقسام الرقمي ليس وليد اللحظة، بل امتداد طبيعي للانقسام السياسي والاجتماعي في لبنان. ويقول: 'منذ البداية لم يكن الحضور اللبناني على وسائل التواصل بعيداً عن الاصطفاف السياسي. ومع تصاعد الأزمات، برزت محطات مفصلية مثل 17 تشرين 2019، ثم انتخابات 2022، وصولاً إلى الحرب الأخيرة، وما تبعها من تراشق غير مسبوق'.
ويضيف أن المنصّات بحد ذاتها 'متاهة للجميع'، لكنّها ليست محايدة، إذ 'يغلب عليها تحيّز المضمون ورقابة الرواية. في لبنان يعتمد التأثير على جهد الناشطين أكثر من سياسات المنصّات، بعكس العالم حيث تتجلى الانحيازات بوضوح لمصلحة رواية الاحتلال'.
وبحسب فنيش، فإن الحملات على وسائل التواصل 'تسهم أولاً في التوتير قبل أن تساهم في صناعة الوعي، وقد أصبحت خلال السنوات الخمس الأخيرة، في طليعة أدوات تشكيل المواقف'.
ويرى أن 'هناك جهات سياسية تستفيد من هذا الانقسام'، مشيراً إلى 'الاستفادة الأميركية من هذه الفوضى، خصوصاً تجاه المساحات الرمادية في لبنان، التي يحاول البعض تصويرها كأنها غير موجودة'. ويحذّر من أن 'الخطوط الحمراء التي كانت تحمي المقامات الدينية والاجتماعية والثقافية باتت تتهاوى، في ظلّ تقصير قضائي واضح'.
أما الحلّ، بحسب رأيه، فيكمن في 'تشريع قوانين جديدة لمكافحة الكراهية، وتفعيل القضاء، وتطوير قانون إعلام مواكب للعصر الرقمي'.
ويختم فنيش قائلاً: 'حتماً هذه الحرب الرقمية تتحوّل إلى أزمات فعلية على الأرض، لأن مستوى الاحتقان السياسي والطائفي والمذهبي في لبنان، يجعل أي شرارة افتراضية قادرة على إشعال فتنة حقيقية'.
'الفيسبوك' يتحوّل الى حرب أهلية مصغّرة
الصحافية والمتابعة لشؤون مواقع التواصل زينة شملي تذهب أبعد من ذلك، فتصف ما يجري بأنه 'حرب أهلية مصغّرة على فايسبوك'، مشيرة إلى أنّ 'المناكفات والسجالات بلغت حدّاً لا طائل تحته'. وتحذّر من الوجه الأخطر لهذه الحرب: تطبيق 'واتساب'، حيث 'تتدفّق الأخبار الكاذبة التي تثير البلبلة، وحين نتحقق من مصادرها نكتشف أن معظمها غير صحيح'.
وتلفت إلى أنّ 'غياب الوعي وعدم الإدراك، يجعل واقعنا سيئاً جداً على المنصّات، خصوصاً مع انتشار أشخاص يطلقون على أنفسهم لقب ناشطين ويقومون برمي الأخبار المزيفة، ما يؤدي إلى تأجيج الوضع أكثر فأكثر'.
وتضيف أنّ 'الطفرة الكبيرة في عدد المنصّات اللبنانية تحدث من دون أي تنظيم أو رقابة من الجهات المعنية، ما يجعل الفضاء الرقمي ساحة مفتوحة للتزييف والسجالات، وسط انعدام تام للأطر التنظيمية والضوابط الأخلاقية'.
بين الحرب الرقمية والسلام الرقمي
يُجمع الخبراء على أنّ لبنان يعيش اليوم مرحلة دقيقة من 'الانقسام الرقمي'، حيث تحلّ 'الشاشة' مكان الساحة، وتتحوّل الكلمة إلى سلاح.
لكن رغم سوداوية المشهد، لا يزال الأمل قائماً بأن يستعيد الفضاء الإلكتروني دوره كمساحة تفاعل بنّاء، شرط أن يُعاد بناء الثقة بين المستخدمين والإعلام والمنصّات.
فالحرب الرقمية لن تتوقف بالصدفة، بل بالوعي، والوعي في نهاية المطاف هو المعركة الحقيقية التي تستحق أن تُخاض.











































































