اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ١٢ أب ٢٠٢٥
حين يُجبر الطائر الحرّ على طيّ جناحيه، وتُغلق في وجهه أبواب السماء التي طالما عرف تفاصيلها أكثر من تضاريس الأرض، تبدأ الحكاية... في هذه اللحظة الفاصلة بين التحليق والانطفاء، يولد سؤال أكبر من مجرد قصة، وأعمق من مجرد تقاعد: ماذا تبقّى من الإنسان عندما يُنزَع منه شغفه؟
في هذا الحوار الممتد، نغوص مع الروائي محسن الغمري في طبقات روايته، حيث تتقاطع الفلسفة بالتجربة، والحياة بالسرد، وتكشف الشخصيات عن وجوه مجتمع بأكمله. هنا، لا نكتفي بسؤال الكاتب عن «لماذا كتب؟»، بل نحاول أن نفهم «ماذا شعر به؟»، ونرافقه في رحلة بحث عن المعنى، عبر شخصية طيار كبير السن لم يتقاعد من الحياة، بل من الحلم... وهو أثقل أنواع التقاعد. ومع الروائي المصري محسن الغمري أجرينا هذا الحوار:
لماذا اخترت أن يكون بطل الرواية طياراً كبير السن؟ هل هناك رمزية خاصة في مهنته؟
- بالطبع، فمن المعلوم أن الجذر اللغوي من «طيار» هو «ط ي ر»، ويدلّ على الحركة الحرّة في الهواء، التحليق بما له من علو وارتفاع، هبوط وانخفاض، الحركة السريعة، وأحياناً التوقف أثناء التحليق كما تفعل بعض الطيور كالعقاب والصقر، وطائر «الطنّان» الأشهر والأقدر. الفعل إذاً هنا واضح ودال على حرية الحركة غير المحدودة، ولذا نجد أن مهنة الطيار هي المهنة التي تعطي صاحبها المساحة الأكبر في السفر والترحال، وتطواف كاد أن يمرّ به بكل كيلومتر مربع على ظهر المعمورة.
أما عن كونه كبير السن، ففي هذا دلالة كبيرة على الحكمة والقدرة على وزن الأمور بمعيار من ذهب. فخلاصة تجربة بطل الرواية من تحليق في فضاءات العالم المختلفة، تقول بجميل حصاده من تعرّف وتذوّق واختبار لثقافات شعوب العالم المختلفة والمتباينة. ومن هنا، يكون هو الشخص الأمثل لعقد مقارنة واقعية ومنطقية بين جمال وبهجة العيش كطائر يحلّق بحرية وانطلاق - كانت لبطل الرواية أثناء عمله كطيار لمدة طويلة - ومعاناته من فقد القدرة على الطيران، كطائر فَقدَ ريش جناحيه، فأُقعد قسراً ممنوعاً من ممارسة الطيران بكل ما له من ميزات خاصة جدًّا، سواء كان ذلك نتيجة فقد رخصة الطيران، أو بسبب الإحالة إلى التقاعد.
كيف ترى موضوع التقاعد والشيخوخة في المجتمع من وجهة نظرك، وهل كان هدفك تسليط الضوء على معاناة معينة؟
- نعم، قصدت تسليط الضوء على معاناة شبه عامة، تصيب كل من أُجبر - وهو في قمة نشاطه الذهني والبدني - على الاعتزال والجلوس مضطراً على دكّة التقاعد المتهالكة. جزء كبير من الحديث هنا ينصب على إشكالية التقاعد (المعاش) في مجتمعاتنا العربية، وهو الجزء المادي المرتبط بشكل مباشر بنظرة المجتمع، التي تحمل في طياتها فعلاً عالياً من التنمّر بهذه الفئة، إضافة إلى نقص ليس بقليل في الدخل المالي، خصوصاً وأن الراتب التقاعدي للشق الأعظم من هؤلاء ينقص بنسبة ليست قليلة، مقارنة براتبهم أثناء فترة العمل.
وهو ما يتسبب في إشكالية عظيمة، عندما يكون هذا الراتب يشكّل كل الدخل العام لأحدهم، أو النسبة الأعظم منه، في مواجهة جائحة ارتفاع الأسعار التي ضربت بشدّة مجتمعاتنا الشرق أوسطية. ونضيف إلى ذلك إشكالية نفسية، قد يعاني منها كل من انتقل إلى تلك المرحلة العمرية، أيا كان موقعه على خريطة المعمورة، وإن اختلفت قليلاً تبعاً لأسباب شخصية أو لثقافة مجتمعية. فالإحساس بالشيخوخة في حد ذاته له وقع ثقيل على النفس، خصوصاً إن تزامن هذا بإحساس يضرب هؤلاء - على وجه العموم - بفقد القيمة الشخصية والحيثية المعنوية في المجتمع، من خلال نظرة تحيط به داخل بيته وخارجه، بأنه صار عالة على المجتمع.
وإن كانت هناك بعض المجتمعات الغربية قد انتبهت لتلك الإشكاليات، وراحت تعالجها بقوانين وقواعد نافذة في المجتمع، للتخفيف عن هؤلاء مادياً ونفسياً، بوضع قواعد صارمة، وإعطاء أولوية لهم عند تقديم الخدمات العامة، إضافة لتفعيل أسعار مخفضة خاصة؛ تعينهم على غائلة الزمن، وتوفير دور لائقة لرعاية من يحتاج إليها، تشتمل على كل الخدمات التي قد يحتاج إليها من يصل لهذه المرحلة العمرية.
هل استندت في بناء شخصية البطل على شخص حقيقي؟ أم هي شخصية مركبة من عدة تجارب وأفكار؟
- الكتابة على وجه العموم هي فعل ذاتي، لذا فالكاتب عندما يكتب (أنا أو غيري) فهو دائماً ما يتكئ على رصيد شخصي من علم ومعرفة، ومن موهبة وخبرة اكتسبها عبر كتاباته السابقة، كما أنه يوظّف كل ما اكتسبه من تجارب معاشة خلال مسيرته الحياتية لخدمة النص قيد التحرير. ومن هنا تأتي إجابتي عن شخصية البطل (الشخصية المحورية)، وأقول: إنها شخصية مركبة من نصفين، النصف الأول أخذته عن شخص حقيقي، جزء من ملامحها النفسية والشكلية، أما النصف الآخر فقد تم بناؤه لتكون شخصيته في مجملها، تتناسب مع هذا الطيار الذي جاب العالم، وحلّق - كما قلت في الرواية - في معظم فضاءات العالم، ثم فجأة أُبعِد عن الطيران لأسباب صحية، فخلق داخله هذا الرافض العاتب على قدر أجبره على التنازل عن الطيران، عشقِ حياته، واستسلم لعمل إداري فُرض عليه، لكنه كان في داخله ناقماً رافضاً لإحالته على التقاعد، ولكل ما فُرض وأُجبِر عليه.