اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ٦ تشرين الأول ٢٠٢٥
يعيش لبنان اليوم أزمة اقتصادية مالية خانقة لم تعد تُقاس فقط بتراجع سعر العملة الوطنية أو بتآكل القدرة الشرائية بل بانهيار مفهوم الدولة نفسها تحت وطأة منظومة الامتيازات الطائفية وتحالف المال والسلاح. إنّ أي معالجة حقيقية لهذه الأزمة لا يمكن أن تقوم على المسكّنات النقدية أو على سياسات القروض والديون، بل تحتاج إلى تحوّل بنيوي في فلسفة الاقتصاد الوطني. ومن هنا تبرز نظرية التمويل بالنمو كإطار فكري واستراتيجي قادر على إعادة وصل الدورة الاقتصادية اللبنانية بدورتها الإنتاجية الطبيعية تماماً كما تستعيد الدورة الدموية حيويتها حين يعود الأوكسجين إلى شرايين الجسد.
أولاً، مفهوم التمويل بالنمو: تقوم هذه النظرية على فكرة أن التمويل لا يُستمد من الخارج عبر الدين بل يُولَد من الداخل عبر الإنتاج. فكل نشاط إنتاجي ناجح يخلق دخلاً جديداً يُعيد بدوره تمويل الدورة الاقتصادية. بعبارة أخرى النمو نفسه هو الذي يُمَوِّل الاقتصاد وليس العكس. إنها نظرية تستند إلى ترابطٍ عضوي بين رأس المال الحقيقي والعمل والإنتاج، بحيث تُصبح النقود انعكاساً لمستوى النشاط الإنتاجي لا لمجرد التوسع في الكتلة النقدية. وعليه فإنّ العملة الوطنية ترتفع قيمتها تلقائياً حين ترتفع إنتاجية الاقتصاد لأنّ النقود تكون عندها مدعومة بقيمة حقيقية وليست بطباعةٍ أو قروضٍ أو تحويلاتٍ ظرفية.
ثانياً، التشبيه بالدورة الدموية: يُشَبّه الاقتصاديون التمويل بالنمو بالدورة الدموية في جسم الإنسان، فحين تكون الدورة الاقتصادية سليمة ينتقل «الدم المالي» إلى جميع القطاعات المنتجة ليغذّيها بالسيولة فتولد وظائف، وتزداد القدرة الشرائية فيتسع الاستهلاك ويزداد الإنتاج مجدداً. هذا التدفق المستمر يعيد بناء الثقة بالعملة الوطنية ويجعلها مخزناً حقيقياً للقيمة. أما حين تتوقف هذه الدورة بسبب الاحتكار أو الفساد أو هيمنة الامتيازات، فإنّ «الدم المالي» يتجمع في شرايين مغلقة هي المصارف والريوع فيختنق الجسد الاقتصادي ويصاب بالشلل. ومن هنا يصبح الإصلاح المالي دون إصلاح إنتاجي أشبه بمحاولة إنعاش جسد بلا نبض.
ثالثاً، التمويل بالنمو كركيزة للحل اللبناني: منذ عقود يقوم الاقتصاد اللبناني على نموذج الريع المالي والمصرفي، حيث التمويل يأتي من الخارج عبر تدفقاتٍ نقدية وتحويلات أو ديون مشروطة فيما الإنتاج الوطني يظل هامشياً. هذا النموذج أدّى إلى نشوء ما يمكن تسميته «اقتصاد الامتيازات» أي منظومة من المصالح المتشابكة بين رأس المال الطائفي والسلطة السياسية تحكمها محاصصة ميليشياوية متخفية وراء شعاراتٍ براقة عن «الواقعية الاقتصادية» و«الخصوصية اللبنانية».
إنّ نظرية التمويل بالنمو تطرح نقيض هذا النموذج إذ تدعو إلى بناء تمويلٍ داخلي يستند إلى الطاقة الإنتاجية الوطنية في الزراعة، الصناعة، التكنولوجيا والخدمات ذات القيمة المضافة. ففي ظلّ هذه المقاربة يصبح تمويل الدولة والمجتمع ناتجاً عن نمو فعلي في القطاعات المنتجة، مما يعني تفكيك سلطة الاحتكار الريعي وتحويل الاقتصاد من مستورد للثروة إلى مولّدٍ لها. ومن هنا، فإنّ تطبيق هذه النظرية في لبنان لا يقتصر على إصلاحٍ اقتصادي فحسب، بل يشكّل تحولاً سياسياً دستورياً باتجاه الدولة الراعية التي تستمد شرعيتها من إنتاجها لا من تحالفاتها الفئوية.
رابعاً، من التمويل الريعي إلى التمويل الإنتاجي ومن الإمتياز إلى المشاركة: إنّ جوهر الأزمة اللبنانية يكمن في احتكار القرار المالي من قبل شبكات مغلقة تستثمر في الريع والمضاربة والعجز. ولذلك فإنّ الانتقال إلى التمويل بالنمو يعني عملياً تفكيك نظام الامتيازات واستبداله بمنظومة الشراكة الإنتاجية التي تتيح لكل فاعل اقتصادي... من العامل إلى المستثمر أن يكون جزءاً من الدورة التمويلية. فحين تصبح الزراعة والصناعة والتكنولوجيا روافد مباشرة للناتج الوطني فإنّ تمويل الدولة يتحول إلى عملية تشاركية تُعيد الاعتبار للطبقة الوسطى وتحدّ من الفوارق الاجتماعية وتفتح الطريق أمام العدالة الاقتصادية باعتبارها الأساس المادي لأي عدالة سياسية.
خامساً، التكامل مع المحيط كرافعة للنمو: لا يمكن لأي اقتصاد صغير ومنكفئ أن يحقق التمويل بالنمو بمعزل عن محيطه الجغرافي. فلبنان تاريخياً كان يتنفس عبر تكامله التجاري والصناعي مع المشرق العربي وخاصة مع سوريا بوصفها الامتداد الطبيعي لسوقه الداخلية ومصدراً لعمقه البشري والموارد. من هنا يُصبح التكامل الاقتصادي مع المحيط العربي عنصراً بنيوياً في أي «مشروع للتمويل بالنمو» لأنه يوسّع قاعدة الإنتاج ويعزز فرص التصدير ويخلق توازناً في ميزان المدفوعات.
لكن هذا التكامل لا يمكن أن يقوم إلّا على قاعدة السيادة الاقتصادية ووضوح الرؤية السياسية بعيداً عن الهيمنة أو الارتباطات الإقليمية الضيقة بحيث يتحوّل لبنان من ساحةٍ للمحاور إلى جسرٍ للتعاون العربي.
سادساً، الوصول إلى الشراكة العربية عبر التمويل بالنمو: إنّ لبنان القادر على تحقيق التمويل بالنمو سيجد نفسه مؤهلاً تلقائياً لبناء شراكة اقتصادية متكاملة مع الدول العربية. فحين يستعيد اقتصاده توازنه الداخلي ويستند إلى الإنتاج الحقيقي يصبح طرفاً موثوقاً في أي مشروع تكامل عربي، لا متلقياً للمساعدات ولا رهينة للمصالح الخارجية. وهنا تبرز سوريا كمنطلقٍ طبيعي لهذا التكامل باعتبارها البوابة البرية والاقتصادية نحو المشرق والخليج وبما تمثله من إمكانية لتبادل المنافع في الطاقة، الزراعة، النقل والصناعة.
إنّ إعادة وصل الشرايين الاقتصادية بين لبنان وسوريا والعالم العربي تشكّل استكمالاً للدورة الإنتاجية الداخلية، وتُحوّل التمويل بالنمو من نظرية إلى ممارسة عملية تُعيد للبنان دوره التاريخي كجسر حضاري واقتصادي في المنطقة.
إنّ التمويل بالنمو ليس مجرّد وصفة اقتصادية بل هو مشروع نهضوي لبناء الدولة الدستورية الحديثة التي تستبدل الريع بالإنتاج، الإحتكار السياسي بالمنافسة والمذهبيّة بالمواطنة. إنه الطريق الوحيد لخروج لبنان من نظام الامتيازات ومحاصصة الميليشيات إلى دولة الشراكة الدستورية المنتجة، دولةٍ تستمد قوتها من العمل والعلم والمعرفة لا من التحالفات العابرة والإحتكار السياسي الطائفي.
وحين يتحقق ذلك سيكون لبنان قد استعاد نبضه الاقتصادي وفتح شرايينه نحو العالم العربي ليعود دولة فاعلة بالتمويل والنمو والتكامل لا دولة متعبة بالديون والتبعية والجمود.
وفي البُعد الرمزي العميق يمكن القول إنّ لبنان يشبه قلباً عربياً أنهكته الجلطات السياسية والاقتصادية لكنه لم يمت بعد. فحين تعود إليه الدورة الإنتاجية كما يعود الدم إلى القلب سينبض من جديد نابضاً بالإبداع، مشعًّا بالحيوية، متصالحاً مع ذاته ومحيطه، متحرّراً من الامتيازات والوصايات. عندها فقط سيستعيد لبنان رسالته التاريخية كقلبٍ نابض في جسد الأمة العربية يوزع الأوكسجين الاقتصادي والفكري على محيطه ويستمد من هذا المحيط ذاته قوته واستمراريته.