اخبار لبنان
موقع كل يوم -التيار
نشر بتاريخ: ٢٦ تموز ٢٠٢٥
أنطوان الأسمر -تكتسب زيارة الموفد الرئاسي الأميركي توم براك إلى بيروت أهمية استثنائية. ليست مجرّد محطة في سياق الوساطات الأميركية التقليدية، بل تمثّل في توقيتها ومضمونها تحوّلًا نوعيًا في نظرة واشنطن إلى الملف اللبناني، وخصوصًا في ما يتصل بثنائية السلاح غير الشرعي وضبط الحدود الجنوبية. كما تأتي في منعطف إقليمي يتسم بكثافة التحوّلات وتبدّل الأولويات الدولية.لم يتم التعامل مع زيارة براك كجزء من سلسلة جهود تهدئة، بل بوصفها محطة في مسار أوسع لإعادة تشكيل قواعد الاشتباك في المشرق، انطلاقًا من تثبيت التوازنات في سوريا، مرورًا بلبنان، ووصولًا إلى الملف الإيراني. فالرجل سبق أن لعب دورًا محوريًا في ترسيخ التهدئة في السويداء، وأتى إلى بيروت مزوّدًا بما يفوق التفويض الديبلوماسي، حاملاً ما تسميه مصادر غربية 'خريطة طريق أميركية لإعادة تنظيم العلاقة بين الدولة والسلاح'.
وفق هذه المقاربة، لم يكن مستغربًا أن تشمل أجندة براك طيفًا واسعًا من الفاعلين اللبنانيين، سياسيين وروحيين، خارج نطاق المؤسسات الرسمية. فالولايات المتحدة، في ظل انسداد الأفق السياسي في بيروت، قررت أن تتجاوز فكرة التفاوض مع السلطة التقليدية كممثل وحيد للدولة، وتسعى إلى بناء قاعدة دعم أوسع تضمن حداً أدنى من الإجماع اللبناني على الخطوط الحمر الأميركية: لا سلاح خارج شرعية الدولة، ولا اتفاقات من دون مهل تنفيذية.غير أن المعضلة المركزية تكمن في الرد اللبناني على الورقة الأميركية. فالوثيقة التي سلّمها لبنان إلى براك، والتي صيغت وفق توازنات دقيقة بين رئاسة الجمهورية ورئاستيّ مجلس النواب والحكومة، امتنعت عن تحديد مهل زمنية واضحة لتطبيق البنود، ما اعتبرته واشنطن تهرّبًا مقنّعًا، أو في أحسن الأحوال، مناورة لشراء الوقت.لم يُخفِ براك، المعروف بصلابته في التفاوض، امتعاضه من هذه الصيغة. وأبلغ مضيفيه أن الإدارة الأميركية غير معنية بإدارة حوار مفتوح الأجل، وأن المهلة المقترحة لصدور موقف حكومي رسمي ونهائي ليست خيارًا بل شرطًا مسبقًا لأي تقدّم في الملفات الأخرى، بما فيها مشاريع الدعم المالي، والمساعدات الإنمائية، وخطط التعافي الاقتصادي. تاليا، أي تأخير أو تمييع للمهلة، يعني عمليًا نسف المسار التفاوضي بأكمله، وربما فتح الباب أمام سيناريوات أكثر تشددًا.ما يزيد الصورة تعقيدًا هو موقع حزب الله من هذه التطورات. فالحزب، وعلى الرغم من امتناعه عن تقديم رد رسمي على الورقة الأميركية، لا يبدو في وارد تقديم تنازل جوهري في ما يخص مسألة السلاح. وإن كانت الوثائق السياسية، مثل خطاب القسم البيان الوزاري وقبلهما اتفاق وقف إطلاق النار، قد كرّست مبدأ حصرية السلاح بيد الدولة، فإن الوقائع الميدانية والتموضع الإقليمي للحزب يحولان دون ترجمة هذا المبدأ إلى خطوات عملية.تشير مصادر سياسية مطلعة إلى أن الحزب لم يكتفِ برفض الرد، بل تجاهل أيضًا الملاحظات الشفهية التي نقلها إلى برّاك رئيس مجلس النواب نبيه بري، الوسيط مع الإدارة الأميركية. فبري، إن بدا في ظاهر موقفه حريصًا على تجنّب الانفجار، لا يملك أوراق ضغط حقيقية لتليين موقف الحزب، خصوصًا في ظل تصاعد حدة الاستقطاب الإقليمي.وفي هذا السياق، برزت محاولة من رئيس المجلس لطرح صيغة تدرّجية تبدأ بوقف كامل لإطلاق النار لمهلة محددة، تلتزم خلالها تل أبيب عدم تنفيذ أي عمليات عسكرية أو اغتيالات، في مقابل إقدام الحزب على خطوة أولى في اتجاه تنفيذ الاتفاق.
وتردّد أن براك قطع الطريق على هذا المسار قبل أن يُولد، مشددًا على أنه ليس مفوضًا بتقديم ضمانات إسرائيلية، ولا يمتلك الوسائل العملية لفرض تهدئة غير مشروطة على الطرف الآخر.أمام هذا المشهد، تكون زيارة الموفد الرئاسي الأميركي قد شكّلت لحظة مفصلية في علاقة لبنان بالولايات المتحدة، وفي مستقبل الوضع الحدودي مع إسرائيل. هو أوصل رسالة لا لبس فيها: واشنطن لن تظل على طاولة المفاوضات إلى ما لا نهاية، ولن تغطي بقاء الوضع الراهن إلى أجل غير مسمى. والمطلوب ليس إعلان نوايا، بل التزام واضح، تفصيلي، وضمن مهلة زمنية صارمة.الوقت، بحسب براك، لا يعمل لمصلحة أحد. وأي فرصة لتثبيت الاستقرار السياسي والأمني، والانطلاق نحو تعافٍ اقتصادي محتمل، مشروطة بحسم الملفات السيادية، وبناء توافق داخلي على قواعد اشتباك جديدة. وفي حال لم يتم ذلك، قد تنسحب واشنطن خطوة إلى الوراء، تاركة لبنان أمام استحقاقاته، من دون مظلّة حماية دولية.هكذا، يتقدّم لبنان نحو أحد خيارين: إما التقاط اللحظة واستثمارها، أو العودة إلى حلقة الانهيار المتسارعة، حيث لا تفاهمات ولا مساعدات، بل فراغ سياسي وأمني مفتوح على شتى الاحتمالات. وفي هذه اللحظة، لا تبدو الخيارات كثيرة، ولا الوقت متاحًا للترف أو التردد.