اخبار لبنان
موقع كل يوم -المرده
نشر بتاريخ: ٢٥ تموز ٢٠٢٥
لا تزال غزة تعيش واحدة من أكثر الفصول قسوة في تاريخها الحديث: حصار محكم، دمار شبه شامل، ومجاعة تتهدد أكثر من مليون إنسان، وفق تقديرات أممية. الحرب المستمرة منذ السابع من تشرين الأول 2023، والتي حصدت أرواح عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، لم تُبقِ شيئاً على حاله: البنية التحتية مدمرة، المدارس والمستشفيات خرجت عن الخدمة، والناس يبحثون عن كسرة خبز أو جرعة ماء.
الاقتصاد الغزّي المنهك أصلاً بات عاجزاً كلياً عن توفير الحد الأدنى من مقومات الحياة، وسط انقطاع المساعدات، وإغلاق المعابر، وتعقيد إدخال الأموال إلى الداخل. وسط هذا السواد، برزت محاولات فردية وشعبية، محلية وعالمية، في محاولة لكسر الحصار الإنساني، لا العسكري فقط.
حسام وزينب وخرق الجدران بالنية
في لبنان، حيث الأزمة الاقتصادية تضرب الجميع بلا استثناء، برزت في الأشهر الأخيرة مبادرات شعبية متفرقة، لكنها مؤثرة، انطلقت من أفراد ومجموعات صغيرة في أكثر من منطقة لبنانية، وتحولت إلى شبكات دعم حقيقية لغزة.
في بلدة مشمش العكارية، أطلق الأهالي مبادرة محلية لجمع التبرعات وتحويلها إلى غزة، بدافع وجداني وإنساني، بعيداً عن أي إطار حزبي أو تنظيمي. يقول حسام سعود، أحد المشاركين في المبادرة، في حديث لموقع “لبنان الكبير”: “المبادرة انطلقت من وجع الناس في مشمش، من إحساس عميق بالعجز، ومن الرغبة في كسر هذا العجز. لم نعد نحتمل مشاهدة المجازر بصمت. التبرعات التي جمعناها يتم تحويلها عبر الأوقاف الاسلامية في لبنان، بطريقة آمنة ومضمونة، وقد لاقت المبادرة تجاوباً كبيراً من الناس في المنطقة وخارجها”.
أما زينب سعيدي، وهي شابة لبنانية بدأت مبادرتها عبر صفحتها على “فيسبوك”، فتخبر “لبنان الكبير” بتجربتها المختلفة: “في البداية، كنت أبحث عن وسيط لإرسال المال إلى مصر، ومن هناك إلى غزة، لكنني وجدت أن هذه الطريقة بطيئة ومكلفة. لاحقاً، اكتشفت أنني أستطيع تحويل التبرعات إلى عملات رقمية (cryptocurrency)، تُصرف مباشرة داخل غزة من دون أي وسيط أو سمسرة”.
وتضيف: “عند التحويل عبر تطبيقات مثل Wish أو عبر المصارف، تخسر الحوالة ما بين 40 إلى 50 بالمئة من قيمتها، بسبب الضرائب والسمسرة والمضاربة. أما بالعملات الرقمية، فالخسارة شبه معدومة، والسرعة أعلى. لقد تلقّينا فيديوهات وصوراً من الأشخاص الذين وصلتهم المساعدات، تؤكد أنهم تسلموا المبالغ واشتروا بها مستلزمات أساسية. على الرغم من ذلك، هناك من يشكك ويهاجمنا وكأن المبادرة مشبوهة”.
لكن زينب لا تهتم كثيراً بالانتقادات: “نحن نعرف تماماً إلى أين تذهب الأموال، ولدينا ثقة بالأشخاص الذين نتعامل معهم داخل غزة. يكفينا أن نرى الصور والرسائل التي تصلنا، نعرف أننا لم نعد نكتفي بالتضامن بالكلام فقط”.
من المخيمات.. حيث الوجع واحد والهوية لا تتجزأ
في المخيمات الفلسطينية في لبنان، حيث تنكمش الحياة تحت وطأة الفقر والحرمان، لم تمنع الظروف الصعبة سكانها من التحرك لدعم أهلهم المحاصرين في غزة. فقد شهدت مخيمات مثل عين الحلوة وبرج البراجنة ونهر البارد مبادرات شبابية لجمع تبرعات، أُطلقت في المساجد والطرقات وعلى صفحات التواصل الاجتماعي.
وفي حديث لـ “لبنان الكبير”، يقول الناشط الفلسطيني م. ع. من مخيم برج البراجنة: “نحن نعيش وجعاً مشتركاً. صحيح أننا لا نملك الكثير، لكن أهل غزة أولى بما تبقّى لنا. جمعنا تبرعات بسيطة، بعضها عيني (أدوية، حليب أطفال، بطانيات)، وبعضها نقدي. نحاول التنسيق مع شبكات موجودة في الداخل لإيصال المساعدات بطرق غير تقليدية”.
ويضيف: “هذه المبادرات أعادت شيئاً من الروح إلى المخيم. شعرنا أننا ما زلنا جزءاً من المعركة، وأن بإمكاننا أن نفعل شيئاً، حتى لو كان صغيراً”.
ما يميّز هذه المبادرات ليس حجم الأموال، بل الفكرة نفسها: أفراد عاديون، بلا مؤسسات ولا ميزانيات ولا غطاء سياسي، يبتكرون طرقاً عملية لإيصال الدعم المباشر إلى من يحتاجه، متجاوزين المخاوف الأمنية.
منصات مثل “تليغرام”، و”واتساب”، والعملات المشفرة، باتت أدوات عمل إنساني بديل، يُعيد الاعتبار الى فكرة التضامن الشعبي خارج الأطر الرسمية. وفي ظل صمت المنظمات الدولية وعجز الحكومات، تتحول هذه المبادرات إلى ما يشبه خيط حياة صغيراً في بحر من الحصار.
من مشمش العكارية إلى صفحات “فيسبوك”، ومن عملة رقمية إلى فتافيت رغيف داخل غزة، لا تزال الأيدي تمتد على الرغم من البعد والحصار، لأنّ فلسطين، وغزة تحديداً، لا تعني القضية فقط… بل تعني الامتحان اليومي لضميرنا الانساني.