اخبار لبنان
موقع كل يوم -الهديل
نشر بتاريخ: ١٤ تموز ٢٠٢٥
خاص الهديل….
قهرمان مصطفى
قبل أن تُطفأ نيران الأسلحة الرمزية التي أُضرمت على أطراف السليمانية، كانت لحظة النهاية تُكتب لمرحلة كاملة امتدت نحو نصف قرن، حملت توقيع عبد الله أوجلان؛ لكن على غير المتوقع، لم تكن تلك لحظة أفول، بل لحظة بداية.. لا إعلان انتصار ولا استسلام، بل تدشين نسخة جديدة من النقاش الكردي – التركي، لا تبدأ من الرصاص بل من الكلمات، ولا تسير عبر الجبال بل تحت قبة البرلمان.
من زنزانته المعزولة في جزيرة إيمرالي، بدا الزعيم الكردي السابق وكأنه يُجري 'ريسيت' تاريخي على نظام سياسي وعقائدي تبنّاه لعقود؛ حيث أنه لم يكن مجرد اعتراف بالعجز، بل نقلة فكرية مكتملة، دفعته لإطلاق 'مانيفستو جديد' يُمهّد لمرحلة سياسية بوسائل ديمقراطية، لا ببنادق الجبال ولا بخطابات النفي الكامل.
عندما دعا أوجلان، عبر رسالة مصوّرة، إلى حل حزب العمال الكردستاني وإلقاء السلاح، لم يكن ذلك مجرد خطاب مراجعة ذاتية. إنها حركة سياسية استباقية، جاءت في توقيت مدروس، يراعي المعادلات المحلية والإقليمية، ويُعيد التموضع في قلب المشهد التركي لا على هامشه.
هذا التحول لم يأتِ بمعزل عن مناخ سياسي متبدّل داخل تركيا نفسها؛ فقد التقطت حكومة 'تحالف الجمهور' الإشارة، وسارعت إلى إعلان استعدادها لفتح باب نقاش دستوري واسع. ليس من باب المزايدة، بل في محاولة واقعية لإدارة ملف كان دائما عنوانا للأزمة، وها هو يتحول إلى فرصة تاريخية نادرة.
التحول اليوم لا يُدار فقط من فوق الطاولة، بل من تحتها أيضا.. صحيح أن البرلمان بات يُحضّر لمناقشة تعديلات تطال قوانين الإرهاب وحقوق الأقليات، لكن اللافت أكثر هو حجم التحركات الهادئة: من إيمرالي إلى أربيل، ومن القامشلي إلى دمشق، فيما ينشط جهاز الاستخبارات التركي على أكثر من خط، في محاولة لصياغة مشهد إقليمي جديد، تُزال فيه ألغام مزروعة منذ عقود.
وفي مفارقة لافتة، يدخل المبعوث الأميركي توماس باراك على الخط، ساعيا إلى فتح قنوات بين دمشق وقسد، في مشهد يبدو أنه لم يعد يُرسم فقط في أنقرة أو طهران أو واشنطن، بل أيضا في زنازين العزلة ذاتها.
ولكن لماذا الآن وماذا تغير؟؟ بعد فشل ثلاث محاولات سابقة لتحريك ملف التسوية الكردية – 1993، 2009، و2013 – تبدو اللحظة الراهنة مختلفة. ليس فقط لأن أوجلان نفسه قد تخلّى عن حلم الدولة، بل لأن المزاج الإقليمي لم يعد يحتمل ملفات معلّقة، ولا أنقرة تملك رفاهية التجاهل.
الملف الكردي بات اليوم تقاطعا حادا لمصالح محلية وإقليمية ودولية؛ فأنقرة تريد استباق التحولات في الشمال السوري والعراقي، فيما واشنطن تبحث عن مخرج يُرضي حلفاءها الأكراد دون استفزاز تركيان أما دمشق فتراقب من بعيد، لكن دون أن تغيب عن الحسابات.
أما في الداخل، فتبدو لحظة التلاقي بين 'العدالة والتنمية' و'الشعب الجمهوري' و'الحركة القومية' و'حزب ديم'، ممكنة ولو مؤقتا، في حال توافق الجميع على هدف واحد: دستور جديد يطوي صفحة الدم، ويفتح صفحة الهوية الجامعة.
من على شاشة إلكترونية، وبخطاب مصقول، خرج أوجلان اليساري القديم كأنه يُقدّم نفسه بلغة العصر. يستخدم 'أوتوكيو'، لا البندقية، ويكتب 'مانيفستو'، لا بلاغا عسكريا. المفارقة مؤلمة وجريئة: هل يمكن للنظام الذي هزّه أن يعود ويعيد تشغيله، ولكن بمفاتيح جديدة؟
قد يبدو الطموح سابقا لأوانه، لكن ما يجري يشير إلى تحولات عميقة :حزب العمال يخسر الورقة الاستراتيجية في يد خصوم تركي؛ أنقرة تُعيد رسم عقيدتها الأمنية بمنأى عن كلفة الحرب المزمنة، والإقليم يتهيأ لولادة مشهد جديد، قد تكون فيه الكلمة أقوى من السلاح.
في النهاية، يبقى السؤال مفتوحا: هل يكتب أوجلان، بعد خمسة عقود من الحراك والدم، بيانه الأخير بلغة المستقبل؟ وهل تملك تركيا الشجاعة لا لطيّ صفحة الماضي فحسب، بل لقراءتها علنا؟