اخبار لبنان
موقع كل يوم -درج
نشر بتاريخ: ١٥ تشرين الأول ٢٠٢٥
يفتقر لبنان إلى سياسة خارجية واضحة بسبب الانقسامات الداخلية التي تمنع تبنّي استراتيجية موحّدة من جهة، والتدخلات الخارجية المتزايدة من بوابة التحالفات مع الطوائف من جهة أخرى. كما ساهمت الجهات غير الحكومية الفاعلة سياسياً وعسكرياً طوال أكثر من خمسين عاماً، وعلى رأسها 'حزب الله' خلال العقدين الماضيين، في إفشال صنع السياسة الخارجية للدولة، واستبدالها بتحالفات إقليمية على حساب المصلحة الوطنية.
أصدر معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت ورقةً بحثية بعنوان 'السياسة الخارجية للبنان: التحديات والتوصيات'، أعدّها مدير المعهد جوزيف باحوط، ووزير الخارجية اللبناني السابق ناصيف حتي، ومنسق الشؤون الإقليمية والدولية في المعهد يغيا طاشجيان. تُسلّط الورقة الضوء على الإشكاليات التاريخية والبنيوية للسياسة الخارجية اللبنانية، وتحلّل العوامل الداخلية والخارجية التي أفقدت لبنان دوره الإقليمي، وأضعفته دبلوماسياً، وحوّلته إلى ساحة للصراعات بالوكالة، مقدّمةً توصيات لتعزيز دوره.
لكن الحرب الإسرائيلية على لبنان وسقوط نظام الأسد في سوريا دفعا إلى 'التفكير في إبعاد لبنان عن الصراعات الإقليمية وحماية مصالحه الوطنية'. وتحاول الورقة تقييم ما إذا كانت للبنان 'مبادئ في السياسة الخارجية' عبر تاريخه، وكيف أدت الاستقطابات الداخلية إلى تعطيلها، مع تأكيد أهمية 'الحياد الإيجابي' و'الدبلوماسية الاستباقية'.
التاريخ والسياسات الخارجيّة المتغيّرة
تحدّد الورقة أربع سياسات خارجية اعتمدها لبنان في تاريخه الحديث: الأولى هي سياسة 'التكيّف القسري'، إذ وجدت الدولة اللبنانية نفسها مجبرة على تقديم تنازلات للقوى العربية المهيمنة، من دون أن يكون لديها هامشٌ من الاستقلالية في صنع قراراتها الخارجية. والثانية هي سياسة 'المواجهة'، خصوصاً في عهد الرئيس كميل شمعون، إذ وضعت الدولة نفسها في مواجهة حادّة مع محيطها العربي، وبخاصةً سوريا ومصر، عبر تحالفٍ مباشر مع الولايات المتحدة الأميركية. وأدّت هذه السياسة إلى انهيار التوافق الوطني، واندلاع صدامات خطيرة، ودخول 14 ألف جندي أميركي إلى الأراضي اللبنانية في عام 1958.
ثم جاءت سياستا 'التوافق الوقائي السلبي' و'التوافق الوقائي الإيجابي'، إذ حاولت الدولة اللبنانية من خلال 'التوافق الوقائي السلبي' تجنّب الصدام مع القوى العربية المهيمنة من دون تبني مواقف واضحة، كما حاولت من خلال 'التوافق الوقائي الإيجابي' التقارب مع هذه القوى لتعزيز الاستقرار الداخلي، كما في سياسات الرئيس فؤاد شهاب بين 1958 و1964. غير أن هذه السياسات لم تكن ثابتة، وكانت متداخلة ومتقلّبة، تتأثر مباشرة بالتحولات الداخلية، وباستغلال قادة الطوائف لتحالفاتهم الخارجية بهدف تعزيز نفوذهم المحلي، ما أدى إلى تعميق الانقسامات وإضعاف الدولة.
التشابك القاتل بين الانقسامات الداخلية والتدخلات الإقليميّة
يؤكد التحليل انعدام الفصل بين الداخلي والخارجي في لبنان. فقد كانت الانقسامات الحادة حول القضايا الإستراتيجية (كالقضية الفلسطينية، والعلاقة مع سوريا والولايات المتحدة، ومقاومة إسرائيل) مدخلاً لترجمة الصراعات الإقليمية محلياً. واستخدمت الميليشيات اللبنانية الأيديولوجيات القومية والدينية في تحالفاتها الخارجية لتعزيز مواقعها الداخلية.
تتجلّى جذور هذا الغموض في إشكالية تأسيس 'لبنان الكبير' عام 1920 والانقسام التاريخي حول هويته بين 'لبنانية فينيقية' و'مشرقية عروبية'. وحاول 'الميثاق الوطني' غير المكتوب عام 1943 بين الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح، معالجة هذه الإشكالية بتصوير لبنان كدولة مستقلة ذات 'وجه عربي'، لكن هذه الصيغة القائمة على 'الخصوصية اللبنانية' ظلّت هشة.
أعاد اتفاق الطائف بعد الحرب الأهلية تعريف البوصلة الخارجية للبنان من خلال تأكيد 'الهوية العربية' وترسيخ 'علاقات خاصة' مع سوريا، إذ أصبحت السياسة الخارجية امتداداً للأجندة السورية مع الحفاظ على علاقات اقتصادية حيوية مع دول الخليج، فيما عُرِف لسنوات بـ 'السين سين' (دلالة على التوافق السعودي-السوري). حتى أن العلاقات بين لبنان والولايات المتحدة كانت تمرّ مباشرة عبر دمشق.
شكّل اغتيال الرئيس رفيق الحريري في عام 2005، إلى جانب عدد من السياسيين المعارضين للوجود السوري في لبنان، نقطة تحولٍ جذرية. فأدّى الانسحاب السوري إلى تحوّل لبنان من دائرة نفوذ سورية إلى ساحة للحرب بالوكالة بين محورين: إيراني-سوري يمثله داخلياً تحالف 8 آذار بقيادة 'حزب الله'، ومحور سعودي-غربي يمثله تحالف 14 آذار.
برز 'حزب الله' كفاعل مركزي من خلال ثلاث أدوات: ترسيخ نفسه كقوة رادعة ضد إسرائيل بعد حرب 2006، وقوة مهيمنة داخلياً بعد أحداث أيار 2008 التي منحته حق النقض الحكومي، وقوة إقليمية بعد تورّطه في الحربين الأهليتين في سوريا واليمن، ما فاقم عزلة لبنان عربياً ودولياً. وصل لبنان إلى حالة من الشلل المؤسسي والعزلة الإقليمية والانهيار المالي، في ظل هيمنة واضحة للمشروع السياسي-العسكري لـ 'حزب الله' على حساب سيادة الدولة.
وفي خضم الأزمة، وتخلّي دول الخليج العربي، أصبحت إيران اللاعب الرئيسي في لبنان، حتى إعلان 'حزب الله' فتح الجبهة اللبنانية ضد إسرائيل ضمن 'قواعد اشتباك' حدّدها الحزب بهدف 'إسناد غزة'. لكن الحزب تعرّض لخسائر كبرى، ثم توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، وسقوط نظام آل الأسد في سوريا، أدى إلى انحسار الدور الإيراني في المنطقة وإضعاف الحزب في لبنان.
في التوصيات: حيادٌ إيجابي ودبلوماسية استباقية
تقدّم الورقة إطاراً نظرياً لصنع السياسة الخارجية اللبنانية، ينطلق من موقع لبنان الجيوستراتيجي. يبدأ هذا الإطار بنقد مفهوم 'الحياد الذاتي' التقليدي لاستحالة تطبيقه في لبنان بسبب غياب التوافق الداخلي ورفض الفاعلين الإقليميين. فحتى لو أعلن لبنان حياده ذاتياً، فإن هذا الإعلان الأحادي لا قيمة فعلية له ما لم يتحول إلى وضعٍ قانوني دائم معترف به دولياً، كما هو الحال في النمسا وسويسرا، حيث اتفقت كل القوى الدولية والإقليمية على حيادهما، الذي أصبح أيضاً ملزماً قانونياً لكلَي البلدين.