اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ٣ تشرين الأول ٢٠٢٥
هي امرأة الحزن المتعالي، ترتدي همّ وحزن العمر بأناقة. وتمشي محمّلةً بذاكرة أثقل من خطواتها، لكنها لا تنحني، فالحزن علّمها أن الوقوف وسط العاصفة أبلغ من ألف انتصار زائف.
تضع ألمها في جيبها كما يضع الآخرون مفاتيح بيوتهم، تتفقّده كلما ضاقت الروح، وتتأمّل كيف يصنع الانكسار شكلاً آخر للحرية.
وتوقن أن لكلِّ جرحٍ حكاية تحبُّ أن تُروى، وللكتابة قدرة على تحويل الفوضى إلى ترتيب يرحم القلب.
تكتب لتُعلّم الصبر قراءةً أخرى، ولتسمّي الأشياء بأسمائها كي يتعرّى الخوف من هالته المربكة.
تكتب لكي تري نفسها أنها تستطيع أن تُحدث في هذا العالم فرقاً صغيراً - ليس بإصلاحه، بل بإصلاح علاقتها به.
ليس المطلوب أن يزول الحمل كلّه دفعةً واحدة؛ يكفي أن تتعلم كيف توزّع الثِّقل، كيف تطلب يداً للمشاركة حين يضيق بها المكان، حتى وإن لم تجدها، كيف تُعلّم قلبها أن يثق في فترات الهدوء، ليستريح فيها. وربما تكتفي بأن تقول: أنا هنا، بالرغم من كلِّ من حاول أن يقنعها بالعكس.
هي امرأة الحزن المتعالي، تغزل من خساراتها خيوطاً لثوبٍ أنيق، ثوبٍ من الصبر والغموض والحكمة، لا يشيخ ولا يتمزّق، يحمّيها من خواء اللحظة ويذكّرها أنها لا تملك رفاهية الحزن، ولا ألمَ الانكسار، ولا هزيمةَ الروح، ولا لحظةَ ضعف، ولا وقتاً للشكوى، ولا ثغرة لتسلّل الانهزام إلى قلبها.
تدرك أن الاستمرار ليس سِرًّا عظيماً بقدر ما هو تراكم طقوسٍ يومية: غسلُ وجهٍ حزين مسه أرق السنين وأصابه داء الحنين، مسح غبار الوقت عن عيون أرهقها الانتظار، تنظيف أسنانها من حديث لم يُقل، ترتيب فوضى قلبها من ذكرى أمير صادق عطوف اغتاله القدر، وصدمة ذئبٍ ماكر فضحه خداعه وأنانيته، وترديدُ جملةٍ صغيرة تمنع الانهيار.
تلك الطقوس ليست خياراً بل عهدٌ تبرمه مع نفسها كل صباح؛ عهد لا يحمل وعوداً متهافتة، بل التزاماً رقيقاً بأن تستيقظ مجدّداً لترى إن كان النهار قد نسي لمرة واحدة فقط أن يكون قاسياً.
تستيقظ من نومها، ترتدي وجهاً ليس وجهَها، تضع اليومَ في جيب حقيبتها، تتأكد من سلامة عقلها الذي لم ينم، وإن نامت عيناها. تحتسي قهوتها على عجل، تحشر وجوه من تحب وأصواتهم في قلبها، ثم تخرج لخوض معركة وجودها. تخبئ حزنها تحت سريرها لكي لا تصادفه في مسيرها فيربكها. تلقي نظرة حانية على أمها وإخوتها النائمين. يشاكسها قطّها - ذلك المدلل الذي يتبعها كظلها - يمنحها سعادة خفية، يمدها بأول شرارة حب صادقة تُطلقها نحو يومها، ثم تخرج لخوض معركة وجودها، تتكئ على دعوات أمها، بينما يتكئ العالم عليها ويكاد يسحقها. لكنها ما زالت صامدة ولم تجد حلاً سوى الاستمرار. كل الحلول تهرب منها، والمشاكل والصعاب تطاردها كما لو أنها قتلت لها رضيعها. تركض كَعَدَّاءَةٍ عكس عقارب رغبتها، لم تجتز الحواجز بل اخترعت الطريق محاولة الوصول لهدف ليس لها، ثم تهدي ثمار جهدها لغيرها، تلهث وتشعر بالقلق يلازمها كل يوم.
يحدث هذا كل يوم.
تصل إلى عملها، ترتدي قناعَ الصمود على وجهها كزيّ عمل يعزز تركيزها وانضباط روحها، وتدخل العالمَ المترقب الناقد لكل ما يرى وكأنها في مهمةٍ لا تحتمل تبريرات. تكتم دموعها قبل أن تُرى، تخفي وجعها وتغلق أذنها عن كل التأويلات وتتجاوز كل الثرثرات والأحكام المسبقة حول غموضها، وتحافظ على مسافةٍ مصطنعة بينها وبين الناس - ليس تكبّراً، بل وقايةً من انهيار قد يحدث لو عرفوا عمق ما في داخلها. لا وقت للعب دور الضحية أو للبكاء، فهي لطالما اقتنعت بأن الإنسان عليه أن يكون في عمله متماسكاً محترفاً، مثيراً للإعجاب، وليس للشفقة.
مساءً تعود إلى داخلها كمن يدخل مدينة مهجورة، تبحث عن نوافذ تضيئها بكلمة، عن أبواب تُقفل بابتسامة. تجد نفسها أحياناً تقسم للزمن ألا يمرّ هكذا عبثاً فوق صدرها؛ تضع له شروطاً بسيطة: أن يترك لها دقيقة صادقة بدون ضجيج أو قلق أو خوف من الغد المرعب، أن يعطيها لحظة لتعدّ فيها جراح الأمس قبل أن يزفّ لها صباحاً جديداً محملاً بمشقاته.
عندما تنام، تحتضن فكرةً بسيطة: أن البقاء عملٌ بطوليّ صغير يُنجز لحظةً بلحظة. المقاومة ليست دائماً انتصاراً بهيًّا؛ أحياناً تكون مجرد قرار ٍشجاع بالوقوف في وجه العاصفة ساعةً إضافية، أو إكرام النفس بكوب ماءٍ رغم تَقَرُّح العالم. تتعلم أن تتصالح مع جسدها الهزيل المريض كرفيق متعب، لا كمؤامِر، وأن تقبل حدوده وتعيد له بعض اللين والتوازن.
ترتمي بجانب والدتها، وتسرق من نبضها نصيبها من الأمان والهدوء. تسمعها تمتم وتدعو في صلواتها، ودعاؤها يحمّيها كغطاء دافئ يطبطب على قلبها المنهك؛ تكتشف أن الوجود ليس عبثاً، وأن هناك من يراقبها بعينٍ تتجاوز حسابات الدنيا. أمّا العالم، فلا يزال يضغط عليها ويصرخ، لكنها تتعلم كيف تجعل صمتها أبلغ من ضجيجه: صمتٌ لا يعني الإذعان، بل تأهيل النفس للرد من مكانٍ أوضح وزمان أكثر عدلا.
هي صبورة جداً، لا تريد حلولاً سريعة تسرق منها فرصة السؤال. تريد فهماً يغيّر طريقة علاقتها بالأشياء: كيف تحتضن خسارتها كي لا تلتهمها، كيف تترك للحزن مساحته ليعلّمها دون أن يستقرّ في عظامها، كيف تحوّل القلق إلى طاقة سؤال، لا إلى شريك مزعج دائم التذمّر.
هي لم تكن يوماً امرأةً مهزومة، بل كائناً يتقن تحويل الجرح إلى سؤال، والدمع إلى مجاز، والصمت إلى حكمة وقوة. كل حزنٍ سكنها صار حجراً في بناء داخلها، وكل وجعٍ مرّ بها صار سلّماً ترتقي به نحو فهمٍ أعمق لنفسها وللوجود.
الكتابة عندها ليست هروباً من الواقع، بل طريقة لاستجوابه؛ تطرح أسئلتها في سطرٍ واحدٍ، أحياناً يجيبها السطر التالي، وأحياناً يهرب الجواب إلى صفحةٍ أخرى أو زمنٍ آخر . تكتب لأن الكلام وحده يخفف من ثقل حزنها ووحدتها، لأن الحروف تضع حدوداً للوحشة حيث يمكنها أن تُعرّيها ثم تعيد ثوبها إلى مكانه.
الكتابة هي مرآتها الوحيدة الصادقة؛ فيها ترمّم وجهها بكلماتٍ لا تخجل من صدقها، وفيها تخرج من المعركة الصغيرة كل يوم منتصرةً بصمتٍ لطيف. وربما يكفّ العالم يوماً واحداً عن الضغط، أو ربما لا - لكنها ستظل تمارس طقوسها: ترتدي بأناقة وجهاً ليس وجهَها، تضع اليومَ في جيب حقيبتها، وتكتب حتى يهدأ شيءٌ ما بداخلها، حتى يصبح الحرص على الوجود عملاً له طقوسه، وحتى يعرف الألم أن لها لغةً لا تُقهر إلا بحضورٍ رقيقٍ وأنيق منها.
وهي يوم تموت سَيُكتَب على الماء: «كانت حرّة، قوية، متمردة، مجنونة، مجنونة، مجنونة، أرهقها السير في المستحيل، وقطعت الدروب كلها وحدها، وحدها، وحدها، مشياً على الكلام». سَيُكتَب: «كانت امرأة الحزن المتعالي، ارتدت همّ وحزن العمر بأناقة».
جنان العلي