اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ٣ تشرين الأول ٢٠٢٥
تنتظم الدروب لنا. لا نعرف أنفسنا إلّا ونحن نسير عليها، نراها تتشكّل بنا وكأنها لوحة لعبور الأجيال، لا تزال أقدامهم معبّدة بها، لا تزال وجوههم مرسومة عليها.
وحدها الدروب تحفظ حركتنا، وتحفظ تطوّرنا، وتحفظ أشكالنا. ولا تزال همومنا منقوشة على جوانبها، سقطت عن أكتافنا وعن جباهنا ومن أيدينا، وترسبت على التراب وعلى الحصوات، وعلى الشجيرات، وتحت الأشجار التي كانت تفترش سجاجيدها لنا، وتغسلها كل يوم بالندى.
ذات يوم، كانت هذه الدروب تمتلئ بنا، ونمتلئ نحن بها. كنا نتقاسم مع حواريها الزواويد. كانت الزوادة الواحدة شركة مع رفاق الطريق، ومع رفاق الدرب. كانت الدروب تجعلهم أخوة لنا. وكان مجتمعها، مجتمعات أهلها بإمتياز.
تصلح الدروب التي عبرت بنا، أن تكون عناوين حياتنا، وعناوين سعادتنا، وعناوين مستقبلنا. ما أسعدنا اليوم ونحن نلتفت إلى تلك الدروب التي درستنا وتدبّرتنا، وجعلت منا قلوبا تنبض فرحا وحبورا، ليوم مضى منا على رسمها.
دروب سرنا بها إلى الحقول، إلى البساتين، إلى المروج، إلى الينابيع، إلى الغدران. كنا نعدّ ألوان الزهور وألوان الورود. وكنا نعدّ جولات السنونو فوقنا، كنا نراها كيف تحلق فوق رؤوسنا، تكاد تلامس أهدابنا ورموشنا، ننفر الطيور والوحوش من أمامنا.
دروب الينابيع والعيون محفورة في ذاكرتنا، كيف كنا نتسلق إليها، وكيف كنا ننزل إلى نجعتها، عرائس الجرار على الأكتاف، وعلى الرؤوس، يتهادين الهيدبا، ومزامير الرعيان تشنف آذاننا، وأجراس الكباش توقع جوقة القيلة تحت شجر الجوز والدلب والزيزفون، نزلت من الأعالي إلى ظهيرة يومها.
كانت الحصوات الصغيرات تفرّ من تحت أظلافها، تتناثر على جنبات الدروب، ترسم حدودها، تعيد صياغتها وتعيد تعبيدها، وتكنّس ما تلقاه في طريقها، بصدور عارية إلّا من لبدات الشعر الكثيف، لعلّها بذلك تظن، أنها تمهد الدرب لنا، وما خابت بنا ظنونها.
الدروب إلى القنن، عادة ما تكون متعرجة، تلتف حول الصخور العنيدة، تحييها وتكمل طريقها، كلما رأت سنديانة طفل داعبت تربونها، وكلما شهقت لها سنديانة دهرية بعيدة، أطالت الدرب إليها، فهي المستراح العظيم، لكل اللاهثين في الصعود إلى القمة.
الدروب إلى الطواحين، كانت دائما مؤنسة. كنا نحمل إليها الحب والبر وقمحات العيون والقلوب. كانت الغابة تتهادى بنا، تسير الهوينى تارة، وطورا تميل بنا، تتماشى و الحوافي الغامضات، ما أقسى الحافة الغامضة، يقفز منها رقيب إلى أكياسنا، يأخذ حصته، قبل الوصول إلى الرحى.
الدروب إلى الحارات، لطالما إتسعت لنا. كنا نعدّ الحصوات في الطريق، قبل أن نصل إلى حارتنا. كانت النوافذ والشبابيك تلوّح لنا بقضبان الحديد. وكانت البوابات، ترقع طاقاتها، بالأحداق وبالمحاجر، نسمع من خلفها زقزقات الحساسين في أقفاصها، وكذا ترنيمات الأطفال في هدهدة الأراجيح. فما بالكم بالأغنيات والمواويل الرقيقة التي تهاتفنا عن بُعد وعن قرب، وكأنها تنادينا، كأنها تهادينا.
دروب البيادر مثل التلال، مثل السلال، مثل مبارك النوق، في الهضبات وفي الوهدات وفوق القنن المشرفات على الأرياح من كل الجهات، تغامزنا أن نسير إليها في الليالي المقمرات، أو عصر المصائف والمشاتي. هناك، في تلك المناحي النائيات، تسلك إليها الدروب، تسيل بالقلوب التي جمعتها وكدّستها. لا تزال أغاني الحصادين، تملأ آذاننا. هنا على البيادر، إجتمعت كنوز أغلالنا لموسم الشتاء. تحنّ أرغفة الخبز إلى يدين راعفتين على طبق ساخن من تنور عينين ساحرتين.
دروب البيادر ما أجملها، وهي ترتقي بنا إلى الأعالي، حيث مجتمع السنابل الحانيات، وحيث الفرس والنورج والصبي الأرعن، وحيث الشمائل الملأى، وحيث الناقة الغافية على مبرك الخير. وفي الزاوية القريبة أو البعيدة، خيمة القهوة المرّة، والفناجين، ومولى البيت والدار العامرة، وإبريق الماء والخابية.
دروب الصيادين ترسم خريطة الجبل، كيف عبّدتها النعال الواقية من الحجر الذبيح ومن الشوك الفصيح، ومن فحيح حيّات، تنتظر أيضا فرائسها. ترى شوارد الكلاب، تنبح من بعيد. تزقو جماعات من الطير باكرت في نهوضها. وأما الأكمات والأجمات وحوافي الوديان العميقة، فهي مع كل شروق، تنتظر صيحاتها. فما بالك حين يؤول الجبل إلى الغروب، وتذهب الشمس إلى مضطجعها. غندرة الصيادين على الدروب، تميل ميلة الأميال التي قطعتها، ولم تشعر بها.
دروب الليالي في المدينة الغافية، وحراس المدينة وصفير نجي شجيّ، وحنجرة مبحوحة، ونعاس يملأ الجفنين، وسهر مستدام على الراحتين.
دروب المدينة في الليل، أو عند الغروب، أو حين يشق الفجر صدره لنا، وينير الجنبات المعتمة، هناك عند الجسر، فرن وفران، وبائع القهوة المتجول، ورائحة البن، وطقطقة فناجينه المسلية.
دروب وزوايا وساحة مرتجفة من ليل طويل، وشارد عابث بها، وزقاقات تؤدي إلى بوابة مدرسة خلفية، ملعب الأطفال الصغار بمراويلهم ومناديل وشرائط الشعر الملونة، صغيرات بأقدام ناعسة، وبعيون، لا تفارقها الدمعات، وصبية صغار على رصيف المدرسة، ومحال تصيح عند فتح أبوابها في السوق، وباعة متجولون، وبائع الكعكة الساخنة والسحلب والليمون والليمونادة...
تباركت هذه الدروب، تباركت خيراتها. تبارك صفو درب، إتسعت ذات يوم لنا..
أستاذ في الجامعة اللبنانية