اخبار لبنان
موقع كل يوم -الهديل
نشر بتاريخ: ٢٦ تشرين الثاني ٢٠٢٥
خاص الهديل…..
كهرمان
كان صباح الاثنين هادئاً في أنقرة، لكن الهدوء السياسي في تركيا لا يكون يوماً بلا معنى. في ذلك الصباح، كان وفد برلماني يتحرّك نحو سجن إمرالي، إلى تلك الجزيرة الصغيرة التي تحمل في جدرانها أكثر مما تحتمله الخرائط: تاريخ مواجهة، وحروب، ومسارات سلام قُطعت، ومسارات أخرى أُعيد التفكير فيها.
لا أحد يجهل أن زيارة من هذا النوع لا تتم إلا إذا أراد لها النظام أن تتم. الأغلبية العددية في البرلمان موجودة، ومعها هذه المرة دعم حزب 'ديم' المحسوب على الصوت الكردي. التمرير ليس المشكلة… بل ما سيقال داخل تلك الغرفة الصغيرة التي سيجلس فيها الوفد أمام عبد الله أوجلان.
كانت أنقرة تنتظر شيئاً واحداً:
هل ما زال صاحب المحبس يملك ما يكفي من مفاتيح التأثير؟
هل يستطيع إرسال رسالة تهزّ شيئاً من ثبات قائد قسد مظلوم عبدي في شرق الفرات؟؟
داخل إمرالي، بدا أوجلان مستعداً للحديث… عن السلام، وعن المجتمع الديمقراطي، وعن حل “حزب العمال الكردستاني”، وعن ضرورة إنهاء مرحلة السلاح. لكن الرسالة الأهم كانت تلك التي كشفتها صحيفة “حرييت”:
دعوة صريحة لقوات سوريا الديمقراطية للعودة إلى حضن الدولة السورية، وللانضمام إلى الجيش.
كانت تلك الجملة وحدها كفيلة بإحياء رهانات كثيرة في أنقرة. فالقيادة التركية تعرف أن قسد، مهما حاولت الظهور ككيان مستقل، وُلدت من رحم “بي كي كي”، وأن ظل أوجلان لا يزال ينساب في أروقتها. لذلك، لم يكن زعيم الحركة القومية دولت بهتشلي يخفي رهانه: أن كلمة من إمرالي قد تقلب الحسابات في شرق الفرات.
لكن في دهوك، قبل أيام قليلة من زيارة الوفد، ظهر مظلوم عبدي بربطة عنق أنيقة، وكأنّه أراد القول:
“لسنا رهائن الماضي… ولسنا نسخاً مكررة عمّا كان.”
كان واضحاً أن الرجل يرفع سقف خطابه:
لا مركزية، لا تراجع عن الحكم الذاتي، لا عودة إلى ما قبل الحرب… والفدرالية هي الطريق الوحيد لسوريا جديدة.
يمكن اعتبارها رسالة مباشرة لأنقرة… ولإمرالي أيضاً.
في هذه اللحظة تحديداً، بدا المشهد وكأنّ تركيا تحاول إدارة معركة على جبهتين:
ففي الداخل، يريد بهتشلي استكمال مسار الانفتاح الذي بدأه قبل عام.
وفي الخارج، يريد استخدام تأثير أوجلان لدفع قسد خطوة إلى الوراء، خطوة تكفي لأنقرة كي تقول إنها أغلقت فجوة أمنية خطرة على حدودها.
لكن الواقع لم يكن بسيطاً. فواشنطن لا تزال تمسك بيد عبدي، وتل أبيب تعزّز وجودها يوماً بعد يوم في جنوب سوريا، وتبحث عن نافذة للمرور إلى شرقي الفرات عبر أقلية تعرف أنها يمكن أن تشكّل ورقة رابحة في أي تفاوض مستقبلي.
وهكذا، يصبح أي ضغط تركي بلا جدوى إن لم يُرفق بغطاء دولي… وهذا الغطاء غير متاح.
على الجانب الآخر، تنتظر دمشق نتائج تفاهمات العاشر من آذار، وهي تفاهمات ما تزال حبيسة التعقيد. سورية تريد العودة إلى المركزية، وعبدي يرفض. تركيا تراقب، وتلوّح، وتضغط، بينما يعرف الجميع أن أي فراغ في شرق الفرات سيملؤه الأقوى… والأكثر تنظيماً.
لكن، بدت وكأن جملة أردوغان تلخّص المشهد كله:
'من يركب فرساً ليست له… ينزل عنه سريعاً.'
لكنّ عبدي لا يعتقد أن الفرس التي يركبها ليست له.
وأوجلان، على الرغم من قيمته الرمزية، يعرف أنّ رسائله لا تُنفّذ بالضرورة، وأنّ سطوته القديمة لم تعد كافية لتغيير مسار كامل.
عند خروج الوفد من إمرالي، كان المشهد واضحاً:
نعم، لدى أوجلان الكثير ليقوله.
نعم، صوته ما زال مسموعاً.
لكن الصوت وحده لا يحرك خرائط السياسة حين تكون القوى على الأرض مختلفة، والدعم الدولي موزع، والمشاريع تتصارع من دمشق إلى واشنطن.
وبينما كانت العبارات “إيجابية” تتصدر بيان البرلمان، كانت الحقيقة تسير في اتجاه آخر:
هذه الزيارة ليست نهاية قصة… بل بداية محاولة جديدة لترتيب البيت الكردي من الداخل، والضغط على جناحه السوري من الخارج.
ومع ذلك، يظل السؤال معلقاً فوق كل ما حدث:
هل يملك أوجلان مفتاح التأثير؟
ربما.
لكن مفتاح اللحظة… في يد من يستطيع التنفيذ، لا في يد من يملك الكلام.











































































