لبنان يعاني "نكبة أثرية" وأمل الترميم بيد المانحين

استمرار الاستهداف الإسرائيلي يمنع ورش الترميم من الوصول إلى المواقع الأثرية لإجراء مسح شامل للأضرار

مرت نحو ستة أشهر على إعلان اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل، وقرابة ثلاثة أشهر على الانسحاب الإسرائيلي من معظم القرى الحدودية الجنوبية، مخلفاً كثيراً من الدمار والخراب في هذه القرى وبخاصة مناطق الحافة الأمامية، إذ تجاوز حجم التدمير في كثير منها الـ80 في المئة ويشمل الأبنية السكنية والتجارية والأسواق الشعبية والعمارة التقليدية والمعالم الأثرية المصنفة ضمن قائمة المواقع التي أرسلتها الدولة اللبنانية إلى منظمة اليونيسكو لحمايتها، وفقاً لاتفاق لاهاي عام 1954 لحماية الممتلكات الثقافية في حال النزاع المسلح.

لم تسلم قلاع شمع في قضاء صور وتبنين في قضاء بنت جبيل والشقيف في قضاء النبطية من الاستهداف الإسرائيلي المباشر، مما خلف فيها أضراراً جسيمة وتحديداً قلعة شمع التي بناها الصليبيون عام 1116، على سلسلة من الجبال، تنتهي برأس الأبيض في أقصى جنوب لبنان، وتشرف من الجنوب على مدينة (صور) وسهولها. وكانت تسربت صور وفيديوهات مع تقدم الجيش الإسرائيلي إلى بلدة شمع، وقيامه بتفخيخ الموقع الأثري مع ما يتضمنه من قلعة صليبية ومقام 'النبي شمعون الصفا' الديني والمعصرة الأثرية، واعتبرها الجانب اللبناني 'جريمة حرب موصوفة في حق الإرث الحضاري المدرج على لائحة الجرد العام'.

القصف يمنع المسح

ويمنع استمرار استهداف إسرائيل عدداً كبيراً من المناطق الحدودية وإطلاق النار أو القذائف والقنابل على الداخلين إليها، ورش الترميم من الوصول إلى هذه القلاع وغيرها من المواقع التاريخية والتراثية لإجراء مسح شامل للأضرار وتقييم حجم الدمار وما اشتمل عليه في هذه المواقع، ومنها عديد من المساجد والكنائس والمقامات الدينية البالغة القدم، دُمرت بالكامل، على نحو ما حصل في بلدات بليدا ومحيبيب (في قضاء مرجعيون) ويارون (في قضاء بنت جبيل) وشمع (في قضاء صور).

ويتحدث المهتمون بالشأن التراثي عن رغبة الوزارات اللبنانية المعنية، ومنها وزارة الثقافة عبر المديرية العامة للآثار في ترميم ما يمكن من هذه القلاع والمواقع التراثية، وإجرائها اتصالات على المستويات الدولية بغية تأمين منح مالية لتنفيذ أعمال الترميم والتأهيل، على نحو ما حصل في حرب يوليو (تموز) 2006، إذ تعرضت قلعة شمع ومقام 'شمعون الصفا' المجاور لها إلى تدمير كبير، أسهمت دولة إيطاليا من خلال فرقها المنتظمة في قوات 'يونيفيل' في ترميمها وتأهيلها على نفقتها الخاصة بين عامي 2014 و2015 ثم افتتحت أمام العامة قبل أن تعيد إسرائيل تدميرها بصورة كاملة، ويرجح المتابعون صعوبة إعادة تأهيلها مع المقام المجاور لها نظراً إلى ما لحقهما من تفخيخ وتفجير ثم تدمير وتجريف.

بحثاً عن مانحين محتملين

يقول مدير المواقع الأثرية في جنوب لبنان، علي بدوي، 'أجرينا إحصاءً أولياً للأضرار التي أصابت المواقع التراثية والأثرية المحلية والوطنية بسبب الاعتداءات الإسرائيلية، وعلى امتداد فترة الحرب، وتبين لنا أن مواقع أثرية عدة أصيبت بضرر واضح قابل للإحصاء على نحو قلعة شمع ومقام النبي شمعون الصفا المجاور لها قرب الناقورة في قضاء صور، وقلعة الشقيف وقلعة تبنين، وبدأنا بعملية التفضيل الأولي ونحاول التواصل مع المانحين المحتملين بغية المباشرة بأعمال الترميم'.

ويضيف بدوي لـ'اندبندنت عربية' أنه 'في مناطق أخرى نحتاج إلى مدة أطول كي ندرك حجم الأضرار وتفاصيلها، وهي التي أصابت النسيج المدني والقروي وتحديداً البيوت والمنشآت الخاصة التي تتوزع على عدد كبير من البلدات، ومنها بلدات لم نستطع حتى الآن الدخول إليها لنقف على أوضاعها وخسائرها بسبب تعرضها الدائم للاعتداءات الإسرائيلية'.

ويلفت بدوي إلى أن 'هذه المناطق تحتاج إلى خطط أكثر ووقت أطول لأن تمويلها معقد، كونها أماكن خاصة وليست عامة، والاتفاق على آلياتها يجب أن يكون مع الجهات القائمة عليها. نحن أنهينا مرحلة، ولدينا بعض المانحين المحتملين لعدد من المنشآت، وعندما أقول المانحين فلأن الدولة اللبنانية لا تخصص موازنة لمشاريع أو مشكلات مشابهة، أو لمواقع تحتاج إلى إمكانات عالية ومعظم موازنة الدولة تذهب باتجاه قضايا تشغيلية'.

مواقع أزيلت بالكامل

ويشير بدوي إلى أن 'الضرر في بعض المواقع مرتفع جداً على نحو قلعتي شمع وتبنين، وإذا ذهبنا بالإطار الممنوح في الموازنة اللبنانية المخفضة كثيراً فإن ترميم هذه المواقع سيأخذ وقتاً طويلاً، لذلك نحن في حاجة إلى الدفع باتجاه الحصول على منح كي نستطيع البدء في عملية الترميم هذه. وفي هذا الإطار ثمة مجموعة من المساجد والكنائس على رغم أنها ملكيات خاصة فإننا نبحث عن بعض الإعانات أو الهبات لترميمها'. ويردف 'هناك أماكن لا يمكن حالياً أن نقوم بأي شيء تجاهها على نحو مسجد بليدا التاريخي، ومن أسف شديد فقد أزيل هذا المسجد بشكل تام ولا نستطيع حتى الآن الوصول إليه لإجراء الكشف أو التواصل مع السلطات المحلية كي نعرف ماذا بقي منه، لكن وبحسب معلوماتنا الأولية فإن هذا المسجد الأثري أزيل نهائياً وهنا لن يعود الأمر يتعلق بعملية الترميم بل ببناء مسجد جديد وهذا بات أمراً مختلفاً'.

ويتحدث بدوي عن 'أماكن أزيلت نهائياً مثل مسجد بليدا ومقام بنيامين في محيبيب ومساجد وكنائس في يارون، ويمكننا الجزم بأننا فقدنا تماماً عدداً من المواقع الأثرية والتراثية خلال هذه الحرب بعدما أزيلت من الوجود، فدمرت أو جرفت، وبعض المواقع دمرت جزئياً على نحو ما حصل في عدوان 2006 ولن يُعاد بناؤها على الشكل الذي كانت عليه، بل تحولت إلى أطلال'.

وماذا عن مدينة الصور التي تعد بكاملها مدينة تاريخية وأثرية؟ يجيب بدوي 'الأضرار في مدينة صور إلى حد ما غير جسيمة إذ طاولت محيط الآثار، أي السياجات حول المواقع التاريخية، ولم تسجل إصابات أو أضرار مباشرة في داخل المواقع، لكن دُمر عدد من الأبنية القريبة من قلعة صور البرية وقوس النصر بمسافات لا تتعدى 300 متر من الموقع وكانت الارتجاجات قوية، ومن المؤكد أنها أثرت في الداخل في تماسك العمارة التاريخية ولن نعرف حجم هذا التأثير في المدى القريب، إذ يحتاج إلى وقت كي يظهر، فهناك أمور غير مرئية في عالم الآثار وبنيتها'. ويختم 'كانت مدينة صور طوال الحرب في دائرة الخطر، ولهذا السبب وقع لبنان على اتفاق حماية معززة مع اليونيسكو لـ34 موقعاً في لبنان خالية من النشاطات العسكرية، وهذا ما تعهد به لبنان كذلك، وهي أعلى حماية قانونية ودولية يمكن أن تمنح لمثل هذه المواقع'.

تدمير النسيج العمراني

يوضح الأستاذ المساعد في الجامعة اللبنانية المهندس حبيب صادق أن 'التقييم الأولي للخسائر يشير إلى تدمير البنية المحلية للقرى والبلدات الجنوبية، والخسائر لا تقتصر فقط على المناطق ذات الطابع التاريخي والتقليدي، بل هو تدمير البنية الكاملة للقرى وبخاصة في جنوب الليطاني، من كفركلا إلى العديسة فحولا وميس الجبل وبليدا وعيترون وغيرها وصولاً إلى الناقورة قرب البحر، وبمعزل عن التدمير الذي حصل للمناطق التاريخية فقد دُمر النسيج العمراني المحلي الذي كان يميز هذه القرى بما يتعلق بموقعها الجغرافي وعلاقة المكان بالبيئة الطبيعية المحيطة'.

ويضيف أن 'النسيج العمراني الذي كان حاضناً للنسيج الاجتماعي دُمر بالكامل، والحديث الذي يدور اليوم عن مفهوم ضم وفرز وإعادة ترتيب هذه المناطق وإزالة العمران العشوائي الذي حصل في السابق، وكان يشكل نقطة سوداء مسيئة للنهضة العمرانية وأثرت بصورة فعالة في الحيز العمراني التاريخي'.

ويؤكد صادق أنه 'في جانب آخر بمناطق بليدا ومحيبيب ويارون ودردغيا وغيرها من المناطق الحدودية، فإن إسرائيل قصدت محو وسطها القديم وركزت بصورة أساس على الأماكن التي تحمل رمزية دينية وتاريخية مثل المساجد والكنائس والمباني الدينية التي تقوم على أماكن قديمة جداً وتتضمن حجارة وعناصر بنائية من الفترات الأثرية، وكانت تشكل نقاطاً مهمة جداً داخل القرى والبلدات، إذ لم يقتصر الأمر على تدميرها وحسب، بل جُرفت بالكامل. هذه الخسائر تشكل مع التدمير الممنهج للطابع المحلي في هذه القرى ما يفوق الـ50 إلى الـ60 في المئة، ووصلت في بعض الأماكن إلى نحو 80 في المئة من أبنيتها المعمارية'.

وعن إجراءات السلطات المحلية بعد مرور نحو ستة أشهر على وقف إطلاق النار لمسح أضرار هذه المواقع والمباشرة بعملية الترميم، يقول المهندس صادق 'هناك بعض المبادرات التي تقوم بها بعض المؤسسات الخاصة على نحو مؤسسة (بلادي للعناية بالتراث)، إذ دخلوا إلى كثير من القرى وقاموا بعملية جرد وليس مسحاً لأنواع محددة من المباني، لكن للأسف، بالأساس وفي زمن السلم وليس الحرب، ثمة إهمال متقصد تجاه المنطقة الجنوبية ولا يوجد فيها جرد للمناطق الأثرية الكاملة والمواقع التاريخية ببعدها المحلي والتاريخي، وليست هناك معلومات حول هذه المواقع سوى المتداول بين الناس بلغتهم المحكية والتربية المحلية'.

ويجزم أنه 'لا يوجد توثيق فعلي وإن وجد لا يتجاوز بأقصى حالاته بين خمسة أو 10 في المئة. وحتى الآن، الدولة اللبنانية لا تمتلك آليات لتوثيق التراث العمراني التاريخي والمحلي وثمة إشكال آخر بموازناتها لإجراء هذا التوثيق ورؤيتها التراث العمراني ودوره على المستوى الوطني وعلى مستوى الجنوب اللبناني تحديداً'.

مسؤولية البلديات أيضاً

يشير المهندس صادق إلى 'عدم وجود برامج لدى الدولة اللبنانية سوى بعض التجارب التي تقوم بها بعض المؤسسات المدنية والجامعة اللبنانية ونقابة المهندسين في لبنان. الدولة تقوم بزيارات وتطلق الوعود مع حديث كبير جداً عن ترميم عدد من البيوت التاريخية، وهذه ليست حلولاً، الحلول في أن تضع الدولة رؤية واضحة من خلال إدارة تهتم بصورة واضحة بالتراث العمراني التاريخي الحي، وهي مجرد آراء نطرحها ضمن (المبادرة الوطنية للتصدي لنتائج العدوان الإسرائيلي) وطرحناها كذلك في (إعلان بيروت العمراني) بعد انفجار المرفأ في الرابع من أغسطس (آب) 2020 وكان هناك اقتراح أنه لا يمكن لنا أن نضبط وأن نحمي تراثنا العمراني التاريخي الحي إلى جانب التوظيف الأثري وعملية توثيقه بالكامل إلا بإدارة مستقلة مهمتها إدارة التراث العمراني الحي والمدن التاريخية'.

ويضيف 'على البلديات كذلك أن تتحمل مسؤولياتها في هذا الإطار، لأن الوعي المحلي في هذا الاتجاه ضعيف وضئيل وقبل أن نذهب إلى وزارة الثقافة يفترض أن تقوم البلديات بدورها على هذا الصعيد، وهذا الدور حالياً شبه معدوم، إلا في بعض الاتجاهات التجميلية الاستعراضية أكثر مما هي جوهرية، لذا يجب على البلديات أن توثق تراثها المعماري المحلي وتعتمد مع وزارة الثقافة نظام المنطقة التراثية الخاصة لأن قانون البناء أقوى من التراث'.

وتابع 'هناك مسألة يجب أن نأخذها في الاعتبار تبدأ من الدستور اللبناني الذي يعتبر قدسية الملكية الخاصة تطغى على ما عداها، ولا يهاب التراث بمجرد قانون يحميه وآليات لها علاقة بأنظمة لهذه المناطق، ليس لحمايتها وحسب بل لتوظيفها والاهتمام بترميمها وإعادة تأهيلها وتوظيفها في الحياة الاجتماعية الاقتصادية للمجتمعات المحلية'.

معركتنا بخلق الوعي

وحول ضبابية الترميم والتأهيل والجهات التي ستقوم بذلك يلح المهندس صادق على 'ألا ننهزم أمام الحرب والفوضى، لأن الانهزام في موضوع التراث والتاريخ هو انهزام لموطئ القدم الوجودي لهذه الجماعات التي تقطن هذه المناطق، وثمة جهد ومحاولات مع وزارة الثقافة ونقابة المهندسين والبلديات للبدء بتوثيق هذا التراث ليس بالصورة فحسب، بل برفعه وتصنيفه وإعادة صياغة حكايات الأمكنة حتى تتحول هذه المناطق إلى فرصة تأخذ حيزها في مستقبل القرى والبلدات من خلال عملية إعادة تشكيل هذه الأمكنة وبخاصة في جنوب الليطاني ومدينة النبطية شمال الليطاني التي يجب أن ترتدي أهمية رئيسة في هذا الإطار، هي ليست قضية قرار فردي أو شخصي وبالأساس المشكلة أن الدولة ليست عندها رؤية'.

ويخلص صادق إلى أن 'معركتنا اليوم هي خلق الوعي على المستوى البلدي كي يشكل عنصر ضغط على وزارة الثقافة في تكوين نوع من العمل المؤسساتي لتوثيق هذا التراث وإدارته بصورة فعالة في حياة المجتمع المحلي، وهذا مسار نعمل على تحقيقه، وفي الطليعة المؤسسات الثقافية إلى جانب البلديات قبل الوصول إلى وزارة الثقافة'.

نكبة شمع التراثية

ويصف الناشط في الشأنين التراثي والأثري إبراهيم صفي الدين من بلدة شمع ما حصل في البلدة ومواقعها الأثرية والتراثية والدينية بـ'النكبة' ويقول 'لقد خسر المقام الديني شمعون الصفا أحد قبابه الأربع، وانهارت غرفة الجامع التابعة للمقام بشكل كامل مع قبتها، ودمرت مئذنته بشكل جزئي وسبق أن انهارت بشكل كلي في عدوان عام 2006، إضافة إلى تدمير جميع الغرف التراثية المحيطة بالمقام'.

ويضيف صفي الدين 'دُمر أحد أقبية قلعة شمع الصليبية، الذي سبق أن أعيد بناؤه بعد تدميره في حرب 2006، إلى جانب تدمير برج القلعة الشمالي، وبرج المشنقة بشكل كامل، إضافة إلى تدمير برج القلعة الشرقي بشكل شبه كامل، وكذلك معصرة الزيتون الأثرية التي دمرت بشكل نهائي قبل تجريفها'.

وعن تقييم حجم الدمار يشير صفي الدين إلى 'صعوبة تتبع صور مقام النبي شمعون الصفا قبل التدمير وبعده، لأن المعالم جميعها إلى جانب غرفه تحولت إلى ركام وهناك صعوبة في الوصول إلى الزوايا عينها، فالمقام يتشكل من أربع غرف وأربع قبب، خسرنا غرفة وقبة بشكل كامل وجُرف نصف المئذنة، وبالكشف تبين أن ثمة قبواً أثرياً يحوي صهريج ماء ملاصقاً تماماً للمقام كان مطموراً، أما معصرة الزيت القديمة فلم يبق من بنيانها أثر'.

ويتحدث صفي الدين عن 'الحي القديم قرب الساحة العامة، فقد دُمر بالكامل بعد تفخيخه وأضحى أسفله أعلاه وأعلاه أسفله. أما قبو القلعة الذي رُمم بعد تدميره في عدوان 2006 على نفقة دولة إيطاليا فهُدم تماماً مع البرج المجاور، ونسفت معظم الأبراج ولم يبق من أصل تسعة أبراج سوى برج وحيد أصابته القذائف وأحدثت فيه أضراراً جسيمة'.