اخبار لبنان
موقع كل يوم -نداء الوطن
نشر بتاريخ: ٢٤ أيار ٢٠٢٥
توالت إخفاقات التغييريين على جبهة الأفعال، فيما ثبُتت جبهة تصريحاتهم مُشتعلةً بالشعارات النخبوية ونفش الريش الفارغ. وهنا، ليست خسارة 'بيروت مدينتي' في الانتخابات البلدية لبيروت 2025 مجرّد هزيمة مُدويّة في صناديق الاقتراع، خسر فيها ائتلاف اللائحة أكثر من نصف ما تمكن من جمعه عام 2016... بل انعكست مرآةً لحالة إنكار جماعي، يرفض فيها قادة التغيير ونوابه رؤية ما آلت إليه تجربتهم، ويستبدلون مواجهة الحقيقة بخطاب دفاعي، وتبريرات تقليدية:
'لوم الناخب، شيطنة الإعلام، إدانة النظام الطائفي، اتهام تحالفات السلطة، رد الفشل للمال السياسي، ومكائد 'المنظومة' على عظمة طروحاتهم الفذّة'. وكأن الخسارة، لا تعني شيئاً سوى أن أهل بيروت 'خذلوا المشروع'.
هنا تحديداً يبدأ الانحدار: حين يُصنَّف كل نقد ذاتي كعدائية، وكل ملاحظة كشيطنة، وكل هزيمة كمؤامرة.
لكن ماذا يعني أن ينهزم مشروع تغييري، ثم يرفض أصحابه نقد الذات، ويصرّون على جلد الآخرين بدلًا من المراجعة الموضوعية؟ الجواب، ربما، ليس فقط في السياسة، بل في علم النفس.
إلا أنا... مناعة النظام أم هشاشة الذات؟
ساد في أبواق الدعاية الفولكلورية للتغييرين التغنّي بما يسمّونه 'النقاء الأخلاقي'، وهو في ظاهره شعار بالغ البراءة، وفي باطنه نرجسية وانكماش عن تحمّل الواقع والخوف من خسارة مكتسبات لاعقي التمويل الأجنبي. فما الذي يجعل فريقاً سياسيّاً يعجز عن النطق بكلمة واحدة: أخطأنا؟
نجد الجواب في 'هشاشة الأنا'، إذ حين تبني تجربة نفسها على خطاب طهوري، أخلاقي، منزَّه، فإن أي اعتراف بالخطأ يبدو كنسفٍ للهوية لا كمراجعة طبيعية في مسار. فيُستبدل الاعتراف بالإنكار، ويُستعاض عن المواجهة بالإسقاط. هكذا، لا يعود المواطن هو مَن قرر محاسبة المجموعة السياسية، بل يصبح مواطناً 'غير ناضج سياسياً'، 'تابع'، أو 'أسير المنظومة'. وهذا في جوهره شكل من أشكال النرجسية الجماعية المُقنّعة، حيث يتحوّل المشروع التغييري من مبادرة حيّة قابلة للتطور، إلى أسطورة عصيّة على المسّ، مقدّسة بأخطائها قبل إنجازاتها.
الإنكار كآلية دفاع نفسي
في علم النفس، تُعرَف ظاهرة رفض الاعتراف بالخطأ وابتكار الأعذار بوصفها إحدى آليات الدفاع النفسي الكلاسيكية، وعلى رأسها الإنكار (Denial) والإسقاط (Projection) فالإنكار هو رفض تصديق ما يهدّد صورة الذات أو يقوّض ثقتها. أما الإسقاط، فهو إلقاء الخطأ على الآخر تجنّباً لتحمّل مسؤوليته. ما نراه اليوم في خطاب التغييريين، هو إنكار صريح بأن الناس سحبت ثقتها منهم، وبأن المشروع فشل في بناء قاعدة متينة والحق... 'ع الطليان'.
وصحيح أن النظام الطائفي في لبنان 'الـ 10452 تعايش'، يتمتع بقدرة رهيبة على امتصاص الصدمات، وتحييد التهديدات، من السذاجة تحميله كل أسباب الفشل. لأن ما يوازي مناعة النظام، هو هشاشة المشروع التغييري نفسه، حين بقي بلا بنية قاعدية، لا لجان أحياء، لا عمل نقابي فاعل، لا استقطاب شبابي خارج الدوائر النخبوية في جامعات المحظيين.
كيف يُقنع من لم يتعايش معهم في أزقة بيروت من 'حي الطمليس' حتى 'ساسين' منذ 2016، بأنه بديلهم اليوم؟ كيف يُصدّق من لم يصمد كتلة واحدة في أي تصويت برلماني، أنه قادر على مواجهة ديناصورات النظام موحّدي الصفوف والرؤى والمحترفين في فهم هواجس الناس؟ إلى من يطمئن ابن الأشرفية ويراه انعكاساً له، إلى حديقة بولا يعقوبيان في 'دفى' أم جهوزية غسّان حاصباني؟ إلى من يلجأ برأيكم ابن 'طريق الجديدة' إلى نصوص ابراهيم منيمنة أم التواصل المباشر مع وضاح الصادق؟
أزمة الثقة ومحاسبة يعقوبيان ومنيمنة
ما فات كثيرين من متبني سردية الضحية، هو أن نسبة واسعة من الناخبين الذين انكفأوا عن التصويت للائحة 'بيروت مدينتي'، أصرّوا على ممارسة فعلٍ سياسيّ واعٍ وهو 'معاقبة النواب التغييريين على فشلهم في مواقع القرار وفشلهم في المضمار السيادي بعدما هادنوا في شعار 'لبنان أولاً' و'تجرّعوا السّم'. بمعنى آخر، لم يكن النفور الشعبي من المرشحين على لائحة 'بيروت مدينتي' ولا بالضرورة انطلاقاً من مشروعهم البلدي، بل كغضب من ممارسي النهج التغييري الذي شيطن مفهوم الخط السيادي وغاب عن المعارك الجوهرية وفي مقدّمها الارتباك في التعاطي مع ملف السلاح. ولذلك، جاءت هذه الانتخابات فرصة لمساءلتهم على طريقة الناس: بالصمت، بالعزوف، وبسحب التفويض.
فما حصل لم يكن مجرّد هزيمة انتخابية لـ'بيروت مدينتي' كلائحة لمرشحين على عضوية بلدية... بل محاكمة شعبية صامتة، قالت بوضوح: 'جرّبناكم. لم تُقنعونا. والبيروتي لا يُلدع مرتين من دون أن يُحاسب'.
الناخب ليس قاصراً.. بل هو عاقل متروٍ
يختصر المدافعون عن لائحة 'بيروت مدينتي' الناخب البيروتي في خطابهم التبريري بكونه 'تابعاً طائفياً'، أو ضحية استتباع وخوف واستزلام و'كرتونة إعاشة'. وهذا في جوهره خطأ أخلاقي قبل أن يكون سياسياً. تصوير الناخب البيروتي كقاصر سياسي يُخفي في طياته نرجسية جماعية تتعامل مع الناخبين على أنهم غير مؤهلين لفهم الطروحات المدنية. إلا أن الناخب ليس مغفّلاً ولا غافلاً عن مراقبة الأداء النيابي لجميع الكتل.
والبيروتي تحديداً كان أكثر من غيّر، وجاء بـ 5 نواب تغييريين من أصل 12، لذا هو الأصدق حين يحكم بناءً على موازين عقلانية بعيدة عن عواطف ثورة 17 تشرين، يهمه: من يبقى في الميدان، من يتحدّث بلغته، من يقف عند مخاوفه، من لا يخشى الدفاع عنه، ومن يملك قدرة على الحل لا من ينشط سياسياً ويصرخ في البرلمان، في لحظة تُسجّل له ولا يُبنى عليها إلا جذب تمويل من 'كلنا إرادة' ومن المنظمات الحقوقية الأجنبية مُحبي 'القفشات التلفزيونية'.
'بعبع' الإعلام
صيغت تقارير استقصائية استهدفت نشاط التغييريين النيابي، وكشفت عشرات المقالات خُدع نهجهم السياسي، نعم. ولكن أي 'حملة مُفترضة' ضد التغييريين لم تكن لتصمد لو لم تُبنى على وقائع، وأدلة ومراجعة متواصلة لأداء النواب، ولم تكن لتصمد لو لم تكن حقيقية في نقد مشروع ادعى التغيير ثم فقد مناعته الذاتية. الإعلام لم يُسقط التغيير. ما أسقطه هو الارتباك، التناقضات، الانشقاقات، والإحساس العام بأن هذا المشروع، الذي كان يوماً عملاً تراكمياً بات اليوم مخبولاً يتعامل مع الهزيمة كبطولة وكأن المشروع كلّما فشل بات أنصع بياضاً، وكلّما رسم مظلومية استخلص منها شرعية البقاء.
'بيروت مدينتي' لم تُسقطها مناعة النظام، بل أسقطها خذلان أهل 'الثورة' لأبسط مبادئ العمل السياسي: أن تكون حيث الناس، لا حيث الخطاب. وأن تخضع نفسك لمحاسبة الناس، لا لمكافأة الذات. الاعتراف بالفشل لا يُضعف المشروع، بل يمنحه فرصة لإعادة الإحياء.
وإلى من مُني بخسارة استحقّها، ويُصرّ أنه/ا 'خشبة خلاص البيارتة'، تذكّروا أن أهالي العاصمة الصامدين على كتف انفجار المرفأ وصليب يومياتهم المُثقلة بالإفقار الممنهج وهجرة الأبناء، لا ينتظرون من يُدلي عليهم مُعلّقات الطهارة وأناشيد الثورة... بل من يَصدُق الوعود، ويَخدُم، ويُصلح، ويكنس الشوارع من دون كاميرات، ويُجيد الوقوف بعد السّقوط.
أما التبرير، فمكانه ليس في خطابٍ تتوجهون به للشعب… بل على أريكة معالج نفسي إلى جانب المنتصرين إلى أبد الآبدين في 'حزب الله'.