اخبار لبنان
موقع كل يوم -المرده
نشر بتاريخ: ١٤ تشرين الثاني ٢٠٢٥
بدأت الأمطار تتساقط في معظم المناطق اللبنانية بعد جفاف طويل، معلنة وصول المنخفض الجوي الذي حذرت منه الأرصاد الجوية، ويتوقع أن يحمل أمطارا غزيرة تتراوح كمياتها بين 30 و70 مليمترا، خلال الساعات المقبلة، على أن تبلغ ذروتها بين ظهر الجمعة ويوم السبت.
لكن مع أولى زخات المطر، عاد شبح الفيضانات ليطارد اللبنانيين، في مشهد متناقضٍ يتكرر كل شتاء، طرقات تغمرها المياه، سيول تجرف السيارات، وانهيارات في الجبال. وفي المقابل، تبقى الأنهار جافة والمياه مقطوعة عن المنازل، فيما المزارعون يشكون العطش.
وبين الخوف من الغرق في الشتاء والعطش في الصيف، يتجدد السؤال القديم: هل سنغرق مجددا في الطرقات؟ أم أن الوزارات المعنية أعدت العدة هذه المرة؟ وأين تذهب مليارات الأمتار المكعبة من مياه الأمطار التي تهطل سنويا، في بلد يعاني من الجفاف ونقص المياه في الصيف؟
هدر نحو نصف المياه في البحر
وبين هذه الأسئلة التي تتكرر كل عام، يعيش اللبنانيون حالة ترقب وقلق دائمين، مع اقتراب كل منخفض جوي، إذ لم تعد الفيضانات مجرد مشهد عابر، بل كابوسا يتجدد مع كل زخة مطر، يقول جورج، موظف في بيروت: 'إن دقائق قليلة من المطر قد تغرق الشوارع بسرعة، ننتظر الأسوأ، كما كل سنة'.
وتقول رنا، أم لطفلين 'بحاول أخلص كل شغلي مع الولاد برا البيت قبل ما يقوى الشتي، خوفا من السيول المفاجئة في الشوارع'.
أما سائق التاكسي خالد، فيخشى تجمع المياه على الطرق وحركة المرور المزدحمة.
وتتذكر سلمى، طالبة جامعية، بما حدث لها العام الماضي، حين علقت أربع ساعات بسبب السيول، مؤكدة أن 'الجميع يعيش على أعصابهم قبل أن تشتد الأمطار'.
تأتي هذه المخاوف لتسلط الضوء على الأسباب الحقيقية للفيضانات، بحسب خبراء البيئة، الذين أشاروا إلى أن لبنان من أغنى دول المنطقة بالمياه، لكنه يعتمد على الطبيعة أكثر من الإدارة، فلا توجد خطط لتجميع مياه الأمطار في خزانات أو سدود صغيرة، ولا نظام وطني لترشيد الاستخدام، ما يؤدي إلى هدر نحو نصف المياه في البحر، بينما يضطر المواطنون إلى شراء المياه بالصهاريج، كما أن الفيضانات ليست نتيجة الأمطار الغزيرة فقط، بل لأن شبكات التصريف إما مسدودة أو غير موجودة، في ظل غياب سياسة مائية وطنية واضحة.
وتؤكد الأرقام الرسمية هذه المشكلات، حيث يشير البنك الدولي إلى أن لبنان يخسر سنويا أكثر من 48% من مياهه الصالحة للاستعمال، نتيجة التسرب والهدر في الشبكات العامة، فيما لا تتجاوز القدرة التخزينية للسدود 8% من حجم الأمطار السنوية، ما يعكس فجوة كبيرة بين الموارد المائية المتاحة وإدارة المياه على الأرض.
ورش وزارة الأشغال
تعمل منذ أيلول الماضي
وفي محاولة للتخفيف من حدة هذه الفجوة والحد من الفيضانات، أكد مصدر في وزارة الأشغال لـ 'الديار' أن 'ورش الوزارة تعمل منذ أيلول الماضي، على تنظيف المجاري والقنوات والمصافي بشكل متواصل، منعا لتكرار تجمعات المياه كما في الأعوام السابقة'، مشيرا إلى 'أن معظم شبكات الصرف في المدن الكبرى، تعود إلى أكثر من أربعين عاما ، ولم تحدّث لتواكب الكثافة السكانية أو تغير المناخ'.
كما كشف 'أن المشكلة تكمن في 'النظام المختلط' القائم منذ عقود، حيث تتصل شبكات الصرف بشبكات الأمطار'، مضيفًا 'الفصل بين الشبكتين يتطلب مشاريع بنية تحتية ضخمة وتمويلا غير متاح حاليا، لذلك نعتمد على حلول إسعافية قبل كل موسم شتاء، مثل تنظيف الريغارات والمجارير الرئيسية'.
وأوضح المصدر أن 'مسؤولية الوزارة تقتصر على الأوتوسترادات، فيما تتولى البلديات والإدارات الأخرى تنظيف الطرق الفرعية'، وأضاف 'أن الفرق تدخلت استثنائيا في بعض النقاط القريبة من الأوتوستراد، لتفادي انسداد المصافي وتسرب المياه إلى الطرق السريعة'، مشيرا إلى 'أن الفرق ستكون جاهزة على الطرق، لمعالجة أي انسدادات قد تسببها الأمطار'.
التحديات والكلفة
ومع ذلك، تبقى التحديات كبيرة على الأرض، كما أظهر شتاء العام الماضي، عندما غمرت مياه الأمطار مناطق عديدة من المتن والشوف وطرابلس، مسببة خسائر مادية جسيمة، ووفق تقرير المديرية العامة للدفاع المدني لعام 2024، تم تسجيل أكثر من 150 عملية إنقاذ لأشخاص احتجزتهم مياه الفيضانات في سياراتهم أو منازلهم، خصوصا في المناطق الساحلية المنخفضة، ما يعكس استمرار هشاشة البنية التحتية رغم الجهود المبذولة.
وبلغت الكلفة الاقتصادية للأضرار الناتجة من الفيضانات خلال موسمَي 2023 و2024 وفق تقديرات وزارة الأشغال العامة والنقل والمديرية العامة للدفاع المدني، أكثر من 120 مليون دولار، شملت تضرر طرقات وجسور وبنى تحتية وشبكات صرف في عدد من الأقضية الساحلية والجبلية.
أما القطاع الزراعي فكان من أكثر المتضررين، إذ قدر الاتحاد اللبناني للمزارعين خسائره بنحو 25 مليون دولار، نتيجة انجراف التربة وغرق البيوت البلاستيكية وتلف المزروعات. هذه الأرقام، رغم محدودية توثيقها الرسمي، تعكس حجم النزيف المالي السنوي الذي يسببه سوء إدارة المياه، وتظهر أن الكلفة المترتبة على الإهمال تفوق بكثير كلفة الحلول الوقائية لو وجدت إرادة جدية لتطبيقها.
ولا تتوقف الكارثة عند حدود الممتلكات والبنية التحتية، بل تمتد أيضا إلى البيئة، حيث تنجرف النفايات من المكبات العشوائية إلى الأنهار والبحر مع كل فيضان، ما يؤدي إلى تلوث خطِر للمياه الجوفية والساحلية. فقد أشار تقرير الجامعة الأميركية في بيروت (AUB) عام 2024 إلى أن عينات من نهر بيروت ونهر الكلب بعد العواصف، أظهرت مستويات مرتفعة من البكتيريا القولونية والمعادن الثقيلة، ما يجعلها غير صالحة لأي استخدام، ويزيد من هشاشة النظام البيئي في البلاد.
وتراجعت معدلات المتساقطات بنسبة 35% خلال السنوات الخمس الأخيرة، بحسب تقرير مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية (LARI)، فيما انخفض مستوى المياه الجوفية في بعض المناطق الساحلية أكثر من 20 مترا.
الإدارة الذكية
يرى الخبراء أن كسر هذه الحلقة، يبدأ من إدارة ذكية للمياه تشمل إنشاء أحواض وسدود صغيرة، لتجميع مياه الأمطار في المناطق الجبلية والسهول، وتوسيع وصيانة شبكات التصريف بانتظام قبل حلول الشتاء، وإعادة استخدام المياه الرمادية في الأبنية والمؤسسات العامة، وفرض رقابة مشددة على المقالع والكسارات، التي تدمّر الطبقات الجوفية وتحرف مجاري الينابيع، بالإضافة إلى تفعيل نظام الإنذار المبكر والتخطيط الحضري للمناطق المعرضة للسيول. فغياب هذه الإدارة الذكية ينعكس مباشرة على واقع الطرقات، التي تبدو في لبنان كما لو أنها ساحة مواجهة دائمة بين الطبيعة والبنية التحتية الهشة،
ويبقى السؤال: إلى متى سيبقى اللبنانيون أسرى هشاشة البنية التحتية وعدم التخطيط المستدام؟ وإلى متى ستظل الأمطار فرصة للتدمير بدل أن تكون مصدر حياة؟











































































