اخبار لبنان
موقع كل يوم -ام تي في
نشر بتاريخ: ٣ تشرين الأول ٢٠٢٥
تعكس الموازنة قدرات الدولة على تسيير أمورها، لكن في نفس الوقت تستطيع توجيه الاقتصاد نحو أهداف معينة اقتصادية واجتماعية. يمكن أن تساهم في تخفيف فجوة الثروة والدخل عبر أنظمة ضرائبية وانفاق مدروسين. من الممكن وضع رسوم عالية على بعض الممنوعات ترفع الايرادات العامة وتصب في مصلحة صحة المواطن. هنالك بنود في الموازنة تهدف أيضا الى التخفيف من التضخم أو الى تحفيز النمو وغيرهما. قانون الموازنة مهم جدا ويؤثر شرط أن تكون الموازنة واقعية في أرقامها وسياساتها الهادفة الى تحقيق الخير العام.
الوضع الاقتصادي اللبناني دقيق للغاية ولا بد من موازنة تصور الواقع وتعطي الوسائل للخروج من الأزمة الحالية. وضع هكذا موازنة يعني جعلها عاجزة، اذ أن حاجات الانفاق أكبر بكثير من الايرادات الممكنة والمحتملة. ما العمل في وقت لا يمكننا خلاله زيادة العجز لتمويل الحاجات؟ في وقت زيادة الايرادات صعبة جدا بسبب عاملين أولا عدم قدرة اللبناني على تحمل المزيد من الأعباء وثانيا عدم ثقة اللبناني بكيفية انفاق ايرادات الدولة من قبل الادارة العامة وبالتالي لا يرغب المواطن في التضحية الايضافية حتى لو لم تكن مؤلمة.تحضير الموازنة السنوية مهم في كل الظروف والأوقات، لكنه أكثر أهمية في بداية كل عهد ومع حكومة جديدة وذلك لوضع الأهداف والبرامج بدقة ودراسة كيفية تمويلها خلال 6 موازنات متتالية. الموازنات ستكون حتما دقيقة جدا خاصة بعد حرب شرسة ومؤلمة ومع تردي واضح للأوضاع الاجتماعية والسياسية بالتزامن مع عمل ادارة أميركية تواجه حلفائها وخصومها في كل الاتجاهات والتعريفات. لا يمكن الخروج من الوضع الحالي الا عبر موازنات ترتكز على تحصيل كامل للايرادات وترشيد جدي للانفاق. الاثنان صعبان في هذه الظروف اذ أن الايرادات لن تكون كافية وتحصيلها لن يكون سهلا. أما من ناحية الانفاق، فالحاجات العامة تتطلب انفاقا كبيرا ليس فقط على الاعمار بل لمساعدة اللبنانيين على تأمين حاجاتهم الاجتماعية والصحية والتعليمية.الصراع الذي شهدناه سابقا حول الموازنات يعود الى ندرة الخيارات المتوافرة لمعالجة الأوضاع المتعثرة حيث تكلفة الاعمار ستكون كبيرة وتأخذ قسما مهما من قدرات الدولة. تعود حدة الصراع الى عدم معالجة الأوضاع المالية الصعبة المتراكمة منذ أكثر من عقدين من الزمن. تفاقم الصراع الاجتماعي مؤخرا بسبب انهيار الليرة وتعثر المصارف وغياب المعالجات المقنعة التي يلتزم بها الجميع. تعمق الصراع بسبب التعثر النيابي بشأن قوانين الانتخابات والايجارات والخلل الدستوري الممزوج بالطائفية والمذهبية والمناطقية.
لن تصبح الموازنة حقيقية بمعنى أنها تعكس أوضاع الدولة والمواطن الا بعد الاستقرار السياسي وعودة المؤسسات الى عملها وهذا سيأخذ وقتا ليس قصيرا. في أهم دول العالم، لو حصلت صراعات بين السلطات وفي المجتمع كالتي نعيشها في لبنان لسقطت تلك الدول على رؤوس سكانها. عبر أي موازنة ومنطقيا، يجب أن تكون الحكومة شفافة أمام الرأي العام في وعودها والتزاماتها وقدراتها. فالصراع السياسي الشعبي حول الموازنة ممزوج بالعلاقات التي يغلب عليها الفساد المنتشر في كافة أرجاء القطاع العام وحتى في القطاع الخاص. دخل الفساد في الثقافة الوطنية وما يجري من فوق للأسف مقبول أيضا من الأسفل، مما يجعل من أي محاولات حتى صادقة لضرب الفساد صعبة جدا.تكمن مشكلة الموازنة اللبنانية في أن الحاجات الحقيقية الحالية كبيرة والايرادات المنطقية قليلة. كل الوزارات والمجالس والمؤسسات تحتاج الى أموال أكثر من المعطى لها لتقوم بالحد الأدنى من واجباتها. وزارة الأشغال والنقل مثلا أعلنت مرارا أنها تحتاج الى أضعاف ما يعطى لها لتقوم بأعمال الصيانة في الطرق وببعض الأعمال الأخرى الضرورية. هذا هو حال الجميع في الصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية وغيرها، لكن من أين تأتي الأموال؟ فالفساد الموجود يشكل تكلفة ايضافية كبيرة تثقل كاهل الموازنة وتعيق عملية خدمة المواطن في الجودة والعمق. المواطن يعاني اليوم معيشيا وحياتيا وينتظر المساعدة من الدولة.المطلوب مستقبلاً موازنة حقيقية بأرقام قريبة من الواقع والقدرات كي يؤمن بها الناس ويحترمون أرقامها. تبنى الأرقام على دراسات موضوعية تناقش ضمن المؤسسات وفي وسائل الاعلام لتنتج في آخر المطاف مشروع قانون يبته المجلس النيابي ونسير جميعا على توجيهاته. ثقة الناس بالدولة حاليا تتحسن، لكن يجب أن تتعزز بخطوات رسمية عملية تفيد المجتمع بسرعة. هنالك مبادئ أولية يجب أن نتنبه لها، أي في الاستثمارات يجب أن نقوم أولا بالطارئة الممولة داخليا وفي الانفاق يجب أن نعزز الأجور والمنافع كي يعمل الموظفون بكل قدراتهم لتحصيل ايرادات الدولة وخدمة المواطن.مصادر الايرادات مهمة جدا. هنالك نوعان أساسيان هما الضرائب والرسوم وثم الخصخصة. في الضرائب والرسوم يجب التنبه الى أن المواطن والقطاع الخاص تعبان من الأوضاع وبالتالي لا يتحملان ضرائب ورسوم ايضافية. هنالك قدرة محدودة على ذلك ساهمت الأوضاع العامة المتردية منذ 2019 في تفاقمها. فالمواطن لا يواجه ضرائب ورسوم فقط، بل أيضا أقساط مدرسية وجامعية مرتفعة وأقساط تأمين صحية وغيرها باهظة أي يعاني جدا. أما المصدر الثاني فهو الخصخصة ايجارا أو بيعا وهذا مهم لتفعيل الخدمات الكهربائية والهاتفية والمائية وغيرها بعد نقلها الى القطاع الخاص في الأوقات المناسبة أي مع الاستقرار.
الموازنات اللبنانية ستكون حتما عاجزة اذ أن أي تقييم حقيقي وواقعي للانفاق والايرادات لا بد وأن ينتج عجزا في ظروفنا الحالية. اذا رفض مصرف لبنان تمويل العجز وهو على حق في ذلك، لا بد وأن تحاول وزارة المالية الاقتراض من الأسواق الداخلية والخارجية. لكن عدم تسديد لبنان لديونه السابقة يمنع واقعيا عليه فرصة الاقتراض. ما الحل؟ اعادة النظر في الايرادات والانفاق بحيث يبنيان على مبدئي الترشيد والفعالية.