اخبار لبنان
موقع كل يوم -ام تي في
نشر بتاريخ: ٢٨ أيار ٢٠٢٥
تتعمّق الأزمة الاقتصادية في لبنان، ويراوح ملف الإصلاحات مكانه منذ أكثر من 5 سنوات. كلما ظننا أننا اقتربنا من الحلّ يظهر معطى جديد ويزيد المشهد تعقيداً. في الأفق اليوم، إشارات سياسية دولية ربما تبدّل المعادلة، وتضع صانعي القرار السياسي والاقتصادي في البلاد أمام خيارات مختلفة عن تلك التي كانت سائدة لسنوات وأشهر خلت.
التصريحات الأخيرة لنائبة المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط مورغان أورتاغوس خلال مشاركتها في منتدى قطر الاقتصادي، حملت مقاربة مغايرة قد تُشكّل انعطافة مهمّة في مسار التعاطي مع الأزمة اللبنانية عموماً، وخصوصاً في شقّها المالي والاقتصادي.
خلافا للخطاب الدولي التقليدي الذي غالبا ما ربط أيّ دعم خارجي أو انفتاح اقتصادي بوجوب التفاهم مع صندوق النقد الدولي، تحدثت أورتاغوس بنبرة جديدة، أكّدت فيها أن صندوق النقد ليس الخيار الوحيد. بل ذهبت أبعد من ذلك عندما تحدّثت عن رؤية كبرى تتيح للبنان جذب الاستثمارات الخارجية بطريقة تجنّبه الحاجة إلى المزيد من القروض أو حتى اللجوء إلى برامج التصحيح المالي التي يفرضها صندوق النقد عادة في مثل هذه الحالات.
هذه المقاربة، لم يصدر عن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب أي تعليق أو تصريح ينفيها أو يضعها في نصابها الصحيح، مما يعني أن الجهات الأميركية توافق على ما حاولت أورتاغوس الإيحاء به في الدوحة. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن ما تفوّهت به المندوبة الأميركية لا يُمثّل بالضرورة انقلاباً على خيار الصندوق، لكنّه يفتح باباً واسعاً لإعادة النظر في طبيعته وجدواه، خصوصاً في ظل الانقسام السياسي الداخلي حيال شروط الصندوق، ومعارضة جزء من الطبقة السياسية - وبعض الأوساط الاقتصادية - لتدخّل الصندوق في البنية الاقتصادية اللبنانية، خصوصاً الشروط التي يفرضها ويرفض من خلالها مشاركة الدولة في تحمّل جزء من المسؤوليات وبالتالي جزء من الخسائر.
الصندوق لا يقف مع فريق ضدّ فريق آخر. فهو في نهاية المطاف مصرف. كأيّ مصرف تجاري حول العالم يبحث عن أفضل السبل من أجل ضمان استعادة أمواله التي يقدمها للجهة المقترضة... ولهذا يقوم الصندوق في تفاوضه مع لبنان بتحييد أيّ ثغرة قد تشكل خطراً على استعادة أمواله. في نظر الصندوق فإنّ تلك الأخطار تتمثل بمسألة استعادة الودائع.
وعليه، وانطلاقاً من هنا، يصبح من المشروع طرح السؤال التالي: هل تهيّئ واشنطن الأرضية لمسار اقتصاديّ موازٍ، أو لخطة إنقاذ بديلة لا تمر عبر مؤسسات التمويل الدولية التقليدية؟
لا إجابات محددة حتى اللحظة، لكنّ اللافت في طرح أورتاغوس أنّها لم تكتف بالإشارة إلى وجود بدائل، بل ربطت هذه البدائل بتصوّر استثماري واضح. إذ شددت على ضرورة تحويل لبنان إلى بلد جاذب لرؤوس الأموال الأجنبية، معتبرة أنّ هذا الخيار يمنح الدولة اللبنانية قدرة أكبر على إدارة اقتصادها بشروطها، بعيداّ من إملاءات خارجية قاسية... وهنا تحديداً يمكننا أن نلمس جوهر الطرح: الخروج من منطق القروض المشروطة إلى منطق الشراكات المستدامة والاستثمارات الإنتاجية.لكن أيّ بيئة قد تتيح فعلياً تحقّق هذه الرؤية؟ وأين يقف لبنان الرسمي اليوم من متطلبات النهوض الاستثماري؟
في الواقع، لا يمكن للحديث عن جذب استثمارات أن ينفصل عن شرط أساسي يتمثل في استعادة الثقة. الثقة بالبيئة القانونية، بالقضاء، بالمصارف، وبمؤسسات الدولة. وهنا، ورغم الاختلاف الظاهري مع شروط صندوق النقد، فإن أي رؤية اقتصادية بديلة ستجد نفسها مضطرة للمرور ببعض المحطات الإصلاحية نفسها التي يُطالب بها الصندوق، وإن اختلفت المرجعية أو الأدبيات.
ما تقترحه أورتاغوس إذاً ليس إلغاءً لفكرة الإصلاح، بل تحريراً لها من البعد التقني البحت، وربما، أيضاً، من العوائق السياسية التي لطالما استخدمت ذريعة اللاءات السيادية لرفض تدخل الصندوق. إنها تدعو إلى إصلاح بشروط لبنانية قادر على إقناع المستثمرين لا البيروقراطيات الدولية.
أما النقطة الأهم، فهي أن المقاربة الأميركية الجديدة لا تفصل بين البعدين الأمني والاقتصادي، إذ شددت أورتاغوس في السياق نفسه على ضرورة نزع سلاح حزب الله كشرط موازٍ لتهيئة البيئة الاستثمارية. بكلام آخر، الاستثمارات ليست فقط رهينة الإصلاح الاقتصادي، بل أيضاً رهينة القرار السيادي. هنا يصبح الاقتصاد أداة ضغط سياسية لا تقلّ أهمية عن السلاح نفسه.
في ضوء كل ما سبق، قد يكون من المفيد للبنانيين، بمختلف اتجاهاتهم، إعادة تقييم مواقفهم من العلاقة مع صندوق النقد، لا رفضاً أو تبنياً مطلقين، بل انطلاقاً من سؤال أساسي: ما الذي نريده فعليا من هذه العلاقة؟ وهل هناك فعلا خيارات أخرى؟ وما المطلوب لخلق بيئة اقتصادية جديدة قادرة على إنتاج الثقة بدل توسّل المساعدات؟
ما قالته أورتاغوس ليس نهاية المسار، بل قد يكون بدايته.