اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ١٨ تشرين الأول ٢٠٢٥
نزيه حمد*
أعادت أزمة مياه شركة «تنورين» الجدل حول العلاقة الحسّاسة بين الرقابة الصحية وحماية الصناعة الوطنية، بعدما أثار إعلان وزارة الصحة نتائج الفحوصات الأولية قبل صدور النتائج النهائية موجة من القلق في الأوساط الصناعية والاقتصادية. فبينما رأت الوزارة أن واجبها يفرض عليها التحرك السريع لحماية المستهلك، اعتبرت الهيئات الصناعية أن التسرّع في إصدار بيانات غير مكتملة قد يوجّه ضربة قاسية لسمعة الصناعات اللبنانية، خصوصاً تلك التي نجحت في اقتحام الأسواق الخارجية بعد سنوات من الجهد والمثابرة.
ما جرى مع شركة «تنورين» لم يكن مجرد حادثة تقنية تتعلق بفحص مياه أو جودة منتج، بل شكّل اختباراً حقيقياً لمدى قدرة الدولة على التوفيق بين واجبها في حماية الصحة العامة ومسؤوليتها في حماية الاقتصاد الوطني. فالصناعة اللبنانية، التي تشكّل أحد الأعمدة القليلة المتبقية في بنية الاقتصاد، تواجه اليوم تحديات غير مسبوقة: من ارتفاع كلفة الإنتاج والطاقة، إلى تراجع القدرة الشرائية في السوق المحلية، وصولاً إلى المنافسة الشرسة من المنتجات المستوردة. وفي ظل هذا الواقع، يصبح أي تشكيك في جودة منتج لبناني معروف، قبل التثبت العلمي الكامل، بمثابة رصاصة تصيب الثقة بالقطاع الصناعي كله.
لقد حذّرت جمعية الصناعيين من خطورة التسرّع في إطلاق الأحكام، معتبرة أن ما حصل قد يفتح الباب أمام حملات منظمة تستهدف الصناعات الوطنية التي نجحت في السنوات الأخيرة في تعزيز حضورها في الأسواق العربية والدولية. فهذه الصناعات لم تعد مجرد مشاريع محلية صغيرة، بل أصبحت رافعة حقيقية للاقتصاد اللبناني، تساهم في إدخال العملة الصعبة وتؤمّن فرص عمل لعشرات الآلاف من اللبنانيين في مختلف المناطق. ومن هنا، فإن أي ضررا يلحق بها لا يقتصر على خسارة شركة أو منتج، بل يطال الأمن الاقتصادي والاجتماعي برمّته.
إن حماية الصناعة الوطنية لا تعني التغطية على الأخطاء أو تجاوز المعايير الصحية، بل تعني تطبيق القوانين والرقابة وفق الأصول العلمية والشفافية الكاملة، بعيداً عن المزايدات السياسية أو الإعلامية. فالمطلوب ليس التهاون في الرقابة، بل إدارة الأزمات بمسؤولية توازن بين الحق في سلامة المستهلك وحق المنتج الوطني في الدفاع عن سمعته. إن أي إخلالا بهذا التوازن يهدّد الثقة المتبادلة بين الدولة والقطاع الخاص، وهي الثقة التي تشكّل أساس أي نهضة اقتصادية حقيقية.
في بلد يعاني من أزمات مالية متلاحقة، ومن هجرة الكفاءات وتراجع الاستثمارات، تبقى الصناعة الوطنية أحد آخر خطوط الدفاع عن الاقتصاد اللبناني. لذلك، فإن التعامل مع أي ملف صناعي يجب أن يتم بعناية فائقة، بعيداً عن التجاذبات السياسية التي كثيراً ما شوّهت صورة المؤسسات وأضعفت ثقة المواطن بالدولة. المطلوب اليوم هو ترسيخ ثقافة الشراكة بين القطاعين العام والخاص، بحيث تكون الرقابة وسيلة لحماية الجودة لا أداة للتشهير، وتكون الشفافية ضمانة للثقة لا ذريعة للتسرّع.
إن ما حدث مع «تنورين» يجب أن يكون جرس إنذار يدعو إلى إعادة النظر في آليات التواصل بين الوزارات والقطاعات الإنتاجية، وإلى وضع بروتوكولات واضحة لإدارة الأزمات الصناعية. فالصناعة اللبنانية ليست مجرد قطاع اقتصادي، بل هي عنوان للهوية الوطنية وقدرة اللبنانيين على الإبداع رغم الأزمات. وحمايتها اليوم ليست خياراً، بل واجب وطني لا يحتمل التردد أو الحسابات الضيقة.
* رئيس مجموعة النزيه الاقتصادية الخليجية