اخبار لبنان
موقع كل يوم -جنوبية
نشر بتاريخ: ١١ أذار ٢٠٢٥
في مقال كتبه سماحة العلامة المفكر الاسلامي الراحل السيد محمد حسن الامين لصحيفة السفير منتصف تسعينات القرن الماضي،تحدث فيه عن دور الصوم المعزّز بالحريّة في المساهمة بالنهضة الاسلامية ومقاومة اشكال الاستلاب والاستسلام.
في عبادة الصوم ثمة استحضار للجسد ونفي له، وثمة اعتراف بضرورات الجسد ومتطلباته، وثمة في الآن عينه، برهان على امكان تجاوز هذه الضرورات من اجل الأهم وهو الصوم.
اذن مجال تحقيق الذات مقابل المنهج الآخر للحرية، لا يأتي الا ثمرة للقدرة على الاستجابة لهذه الضرورات واشباعها، على هذا الصورة تقوم معظم الفلسفات والتوجهات التي حكمت وتحكم المزاج الفكري والروحي للإنسان الذي استردّ حريته من الله.
الصوم والحرية
ولعل اهم ما في هذه العبادة، أنها وهي روحية خالصة، اشد التباسا من أي نشاط روحي آخر بالحال المادي الحياة الانسان والمجتمع والقضايا ذات الاتصال يسعي الفرد والمجتمع للعدل والكفاية.
إن اقوى منطق في خطاب النظام العالمي الآن هو خطاب الضرورات، بمعنى أن فلسفة الاستسلام التي يعتمدها الاتجاه السياسي والفكري الرسمي في المنطقة العربية والإسلامية انما تقوم على معادلة الضرورة، فاذا كانت الأمة محكومة لضرورات الطعام والشراب والامن فانه يتعين عليها الاستجابة لشروط النظام العالمي ولو كان في هذه الشروط ما يتنافى مع مبدا تحقيق الذات.
عبادة الصوم تملك امكانية روحية عالية، لتذكيرنا بخيارات تحقيق الذات وانتصارها امام وهم الخيار الوحيد المطروح، أي الاستسلام وقبول الاستلاب.
وسوف تحاول هنا ان تكتشف ضرورة الصوم بما هو امتناع ارادوي، محکوم بهدف وغاية الهية في مسألة التنمية في العالم الإسلامي (وهو جزء من العالم النامي – المتخلف).
إن تحديات التنمية كبيرة وخطيرة في الدول النامية المتخلفة، فدائما هي محكومة لحسابات الخوف والحذر من الدخول في صراع مع قوى العالم المتقدم المهيمن ومصالحه، ولدى العمل على صياغة خطط تنمية جريئة ومتحررة، ثمة عدد من التحديات المباشرة وغير المباشرة تقف بالمرصاد، من اجل افشال هذه الخطط.
من هنا، فإن عبادة الصوم، هي تعويد على تجديد الحوافز الروحية وإنمائها على نحو يضيف إلى معطيات القوة قوة خارقة لدى الامة، للتعويض عن فقدان المعطيات المادية في معادلات الصراع المفروضة على الامة.
ولكن عبادة الصوم ككل العبادات الأخرى، تصيح من الطقوس المفرغة من حوافزها الروحية عندما تفقد الامة تلك القضايا الكبيرة، فيجري عزل الأمة عن مباشرة التحديات وخوض غمارها.
حوافز النهضة
فماذا تفعل الأمة بالصوم، وكذلك ببقية العبادات عندما لا يكون لديها مشروع للنهوض تقوم به في وتنخرط فيه وتأخذ في تعبئة ذاتها بالحوافز الروحية كما توفرها عبادة الصوم وسائر العيادات الأخرى كما شرعها الإسلام محملة يقدر هائل من الحوافز الروحية.
إن افتقاد الامة لمشروع النهوض، هو المسؤول عن تحويل العبادات في حياتها الى طقوس مقطوعة عن وظائفها الحيّة.
إن مشروعاً متكاملاً للنهوض لا يعني تجديد حيوية العصب السياسي والاجتماعي والاقتصادي للامة فحسب، ولكن يعني تجديد وظيفة عباداتها ايضا وتحويلها -العبادات – إلى عنصر حي في مسار النهوض نفسه.
يبقى السؤال: هل بوسع هذه الحوافز الروحية الكامنة في عبادة الصوم وفي حال التأكيد عليها وتجديدها وارهاقها عن طريق الوعظ والارشاد، هل بوسعها – اذ ذاك – ان تساهم في احياء حوار النهوض واستيلاد الياته البشرية اللازمة، اي صياغة مشروع النهوض؟
بديهي أن الأمر يتطلب أكثر من ذلك بكثير، ولكن اليس مشروع النهوض هو عبارة عن نسيج متكامل من الوعي والفكر والعاطفة والارادة، واذا كان الأمر كذلك فمن ابن ناتي بخيوط هذا النسيج؟
إن قدرنا أن نبحث عن بعض هذه الخيوط الاساسية في داخلنا اعني في طقوسنا عن طريق إعادة مفهوم العبادة اليها، أي في احيائها وتجديدها واكتشاف اوسع فضاءات الحرية المطورة في داخلها، وحتى الآن لا توجد لدينا وسيلة لذلك سوى فعل التأمل والتذكر والاتعاظ، وليس صحيحا أن الانكفاء إلى التأمل هروب من مواجهة شروط الحرية، بل الصحيح أن الحرية حين تتقدم من الخارج، كما هو الشأن في هذا الفضاء العربي الخائف، فانها سوف تفتحها داخل الذات.
(نص محاضرة القيت في ندوة (ملتقى الثلاثاء) الثقافية من ضمن برنامجها الرمضاني)