اخبار لبنان
موقع كل يوم -ام تي في
نشر بتاريخ: ٢٢ تشرين الثاني ٢٠٢٥
هو مشهد وطنيّ استثنائيّ، اختار الرئيس جوزاف عون أن يوجّه خطاب عيد الاستقلال من الجنوب، من الأرض التي حملت أعباء الحرب والاحتلال والانقسام، وحيث تختبر الدولة معناها الحقيقي بعيدًا من الشعارات. لم يكن الظهور في الجنوب حدثًا رمزيًا فحسب، بل إعلانًا واضحًا لمرحلة سياسية جديدة، يُعاد فيها تثبيت جوهر الاستقلال بوصفه مشروع دولة واحدة، لا مشاريع متوازية ولا سلطات متعدّدة.
من هناك، من خط تماس السيادة، أعاد الرئيس رسم خريطة الاستقلال بجرأة غير مسبوقة: استقلال لا يُختزل بذكرى، بل يُبنى عبر المصارحة، والمحاسبة، والاعتراف بالأخطاء التي أنهكت الدولة لعقود. فالرئيس لم يوارِ الحقيقة، بل قالها بوضوح: نعم، أخطأنا في إدارة استقلالنا. نعم، سقطنا في فخ المحاور. نعم، تشوّهت الدولة تحت ثقل السلاح المتفلّت، والوصايات، والارتهانات، والانقسامات. لكن اللحظة الحالية، كما أكّد، هي لحظة استعادة الدولة قبل فوات الأوان.
أعاد الرئيس الاعتبار لدماء الشهداء الذين صنعوا استقلال 1943، من بشامون إلى ساحة النجمة وطرابلس، معتبرًا أن الوفاء الحقيقي لهم لا يكون بالخطابات، بل بإعادة الدولة إلى موقعها الطبيعي كمرجعية وحيدة وحصرية لكلّ اللبنانيين. وهنا تميّز خطابه بطابع سيادي صارم، لا لبس فيه ولا مساومة: لا سلاح خارج الدولة، لا قرار حرب وسلم خارج الدولة، ولا ولاء إلّا للدولة.
وفي لحظة سياسية دقيقة، واجه الرئيس عون إنكارين متناقضين يهدّدان الاستقرار الوطني: فهناك من يتصرّف وكأن شيئًا لم يتغيّر في الداخل والخارج، وكأن زمن اللادولة يمكن أن يستمرّ؛ وهناك من يظن أن التحوّلات الإقليمية شطبت طائفة لبنانية بكاملها من المعادلة. وبين هذين التضليلين، وضع الرئيس موقعه الثابت: حماية كل اللبنانيين من أي إلغاء أو تهميش، ورفض أي خطاب يُقصي جماعة أو يُشرعن الغلبة.
جاء الخطاب ليُعلن بوضوح أن لبنان أمام فرصة تاريخية لتجديد استقلاله، وأن الدولة لن تسمح بعد اليوم بالاستثناءات أو الأعراف التي ضربت تماسكها. فثقافة الدولة، كما شدّد الرئيس، يجب أن تعود نهجًا وسلوكًا وولاءً في كلّ شبر من الأرض، وأن تتوقف كلّ أشكال التغوّل على الحق العام والمال العام والفضاء العام، لأن ذلك هو الشرط الأول لاستعادة الثقة بين المواطن ودولته.
ولم ينسَ الرئيس أهالي الجنوب، فحيّاهم بطريقته الأبوية، مؤكّدًا دورهم الأساسي كمكوّن أصيل من مكوّنات الوطن.
لفتة لم تكن بروتوكولية ولا رفع كلفة، بل جاءت جزءًا من مشروع رئاسي واضح المعالم، يقوم على الجمع لا القسمة بين أبناء الوطن الواحد.
وفي السياق الإقليميّ، قدّم الرئيس قراءة متقدّمة لمسار المنطقة بعد اتفاق غزة، معتبرًا أن التحوّلات المتسارعة تضع لبنان أمام استحقاق المشاركة الفعلية في صناعة السلام العادل، لا أن يبقى ورقة تفاوض أو هامشًا في خرائط الآخرين. كما أشار إلى مؤشرات إيجابية برزت في القمّة الأميركية – السعودية في واشنطن، مؤكّدًا أن لبنان سيكون جزءًا فاعلًا من المرحلة المقبلة، بقراره الحرّ ومصلحته الوطنية.
ومن الجنوب، أطلق الرئيس مبادرته الأكثر جرأة منذ سنوات:
– إعلان جهوزية الجيش اللبناني لتسلّم كلّ النقاط المحتلّة على الحدود فورًا.
– تقديم جدول زمني واضح للجنة الخماسية لتثبيت هذا التسلّم.
– تأكيد بسط سلطة القوى المسلّحة اللبنانية وحدها جنوب الليطاني.
– الانخراط في مفاوضات دولية حول وقف نهائي للاعتداءات.
– إطلاق مسار دولي لدعم الجيش وإعادة إعمار ما تهدّم، بالتوازي مع الهدف النهائي: حصر كلّ سلاح خارج الدولة وعلى كامل الأراضي اللبنانية.
بهذه المبادرة، رفع الرئيس السقف السيادي إلى أعلى مستوياته منذ اتفاق الطائف، واضعًا المجتمع الدولي أمام مسؤولياته، ومظهرًا أن لبنان ليس دولة مستضعفة بل دولة صاحبة قرار ورؤية وجرأة.
ولم يغفل الرئيس عن الداخل، حيث لفت إلى تعافي الاقتصاد بالأرقام الملموسة، وإلى صمود المؤسسات الرسمية رغم الاستهداف والتشويه، في رسالة واضحة مفادها أن الدولة قادرة على النهوض حين تُمنح فرصة العمل ضمن منطق المؤسّسية لا الفوضى.
في الختام، بدا خطاب الرئيس جوزاف عون كأنه إعلان بداية عهد سيادي جديد: استقلال يتجدّد، لا يحتفل بالماضي فقط، بل يؤسّس للمستقبل. خطاب رئيس يعرف أن القيادة ليست موازين قوى بل موازين دولة، وأن بناء لبنان لا يتمّ إلّا بوحدة اللبنانيين تحت علم واحد، وسقف واحد، وقانون واحد.
إنه خطاب رئيس اختار الدولة في زمن تاهت فيه الدولة، فاستعاد روح الاستقلال، وأعاد اللبنانيين إلى مكانهم الطبيعي: مواطنين في دولة، لا جمهوريات صغيرة داخل جمهورية واحدة.
وهكذا، وللمرة الأولى منذ سنوات طويلة، بدا لبنان على عتبة تحوّل حقيقي، لأن رئيسه قال الحقيقة، واتخذ القرار، وبدأ التنفيذ.











































































