اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ١٦ أيلول ٢٠٢٥
ينام الإنسان دهره كله، ثم تستيقظه فجأة نقطة ضوء. هذه المعادلة، لا تشرحها المجلدات، ولا يستطاع أيضا أن تقدم فيها الدروس. وأما متابعة مسيرة الباحثين الأكاديميين والإستمتاع بمحاضراتهم لوقت طويل، فهي مضيعة للوقت. لا يحتاج المرء لأن يفهم كل شيء، بشرح كل شيء له، أو بتعليمه الكتاب، من الألف إلى الياء، فقط يحتاج إلى نقطة ضوء تظهر له فجأة في غابة، أو في مفتاح باب، أو في بوابة نحيلة يطلّ منها على حصن بناه العسكر، ليحصدوا ما حوله من القرى، من البيوت الضئيلة، ومن الحقول والمزارع، التي عاشت زمانها كله على الشمس والماء.
نقطة ضوء شحيحة، تأتي من فتحة حصن، أو من فوهة بندقية. أو من ثغر مدفع، يبست عليه بسمة عصر قديم، وقطرة من ذبيحة، كفيلة أن تأخذك إلى الكلية والجامعة ومركز البحث ومعهد البحوث، تشرح لك بالتجربة العينية، ما غاب عن الأكاديميين والباحثين، وعن غايات الفاتحين، وعن خطب التضليل التي يمدحون بها: يمدحون من تبرّع بالتمويل لحملة صيد البشرية القديمة، عالم الحجر الغشيم.
نقطة ضوء واحدة، من ثغر بئر مهجورة، ومن عين رضيع مات على صدر تسيل منه الدماء، كافية لأن تريك ما كنت لا ترى.
نقطة الضوء، تقصّر لك الطريق في كل شيء. تُريك أولا الظلمة كلها بحجم عصر، وبحجم عصور، وبحجم سلطة، بل سلطات، تتوارث عادة القتل اليومية بلا رحمة، تتوارث المعتقل والمشنقة والمقصلة والمحرقة، تتوارث صناعة المقابر الجماعية، وتعيّن لها الحراس، حتى لا يخرج منها من ينادي على أسماء الطغاة القتلة.
يا لها من رقعة ضوء، تلك التي تأتيك فجأة بعد عصر من النوم على هدهدة الأنظمة التي تستدعي الخزائن، لتفرغ ما في حوزتها، في الجعاب، تريد أن ترفع به جدران قصر بجماجم الأطفال والنساء والشباب والشيوخ، تجعل منها لوحة مروعة على جدران تنادي على الناس أن يركعوا لها.
حين تسير باحثا عن نقطة ضوء أو قطرة دم مشعّة، فأنت حقا تسير، وإن لم تدر، على دروب مهلكة، هنا تخطفوا الأطفال عن صدور أمهاتهم، هنا قتلوا الرجال في الحقول، هنا أحرقوا قرية، وهناك أشعلوا غابة.
نقطة ضوء تراها بعينيك، هي أعظم من لقطة سينمائية مستعادة لمذبحة. ترى بعينيك، كيف يهرول السهم مخذولا، أمام رصاصة تلاحقه، في جنبات الأرض المنقطعة. هنا من داخل الحصن ترى الصورة واضحة، وكأنها لقطة من كاميرا في الغرفة المظلمة.
أكتب عن حصن في آخر الأرض، يفتح أبوابه للزائرين. أكتب عن أي حصن شبيه، أو عن قلعة متجددة، أو عن نار لا تزال مشتعلة، في صدر سفاح، يحملها بذراعه مثل شعلة أولمبية، على جنبات الأرض، لإبادة شعب ينام على شهوة حبة قمح متعفرة.
في طاقة الضوء من عتمة القبو، تنهض في مخيالك كل جرائم التاريخ القديم، كل جرائم التاريخ الجديد. فالأرض الجديدة اليوم، تعود إلى الأرض القديمة، تذيبها: بحثا عن المعادن الدفينة.
نقطة ضوء واحدة، تريك كيف تساق الأرض القديمة إلى نحرها، يخرج الدم، يُصفّى: يحمل إلى مراكز البحوث، إلى الجامعات، إلى الأكاديميات، يقدّم في الكؤوس الذهبية، لأبطال الحروب المستدامة...
نقطة ضوء، أم رقعة شمس، تصيح اليوم على العالم، من ثغر مسيرة، على شكل بعوضة:
متى يتوقف السفاح عن عادة تقديم الشعب على أرضه، إلى ذبيحة...
فيلم قديم جديد...
أستاذ في الجامعة اللبنانية