اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ١٣ أيار ٢٠٢٥
أدب الرسائل أم فن الرسائل، أدب الخاطرة، أم فن تسجيل الخاطرة، أدب البرهة، أم فنها... ربما كان كل ذلك وأكثر، حين نقف على ديوان «جنان خشوف: السّادِسَة والرُّبع. دار نلسن-2023: 80 ص. تقريبا».
«أبكي ألم إصبع يدي السادس في يد من خمسة أصابع. أبكي شعري الميت على الوسادة، ولم يكن له رثاء. ابكي لأن الحلق يترك أثرا أخضرا على أذني، أثرا تغسله قطة واحدة».
مثلما أرجّح، كان لهذا الديوان الصغير، الخارج لتوّه من فرن القلب، أن ينحو هذا المنحى، لأن مثل الشاعرة جنان خشوف، مولجة بتبديد الفراغ، مولجة بتبديد الفراغات، بالكتابة، بالقص، بالأحدوثة، بالحكاية، بالشعر، ذلك لأنها لا تريد للكآبة أن تتسلل إلى نفسها، إلى قاع نفسها، ولهذا نراها تحدب على النسيج الأدبي في ذائقتها، في لعابها، وتحت لسانها، تصوغ منه أدب المتعة الصافية، مثلما تصاغ الشرنقة! تؤسس لفن لا يخطر على بال الكثيرين، تشرّع أبوابه للضوء، تشرّع نوافذه لغمزات القمر في أويقات السحر، تريد أن تملأ صحون نفسها، بأدب الرسالة، بأدب الخاطرة.
«إزرع لي صدرك توتا/ وإحرق صوتك كبخور مساجد جسدي/ وأنسَ أن الورد مفاتيح/ لا مفتاح للسماء/ وطوبى لمن يعتليها».رسائل كثيرة، يسجلها هذا الديوان التحفة، ديوان جنان خشوف، منها ما هو للنساء، ومنها ما هو للرجال، منها ما هو للصغار، ومنها ما هو للكبار. رسائل كثيرة تخرج على حين غرّة، من قاع نفسها، من قاع روحها، تنسجها كما العنكوبتة حلقات حلقات، بيوتا بيوتا. ترى فيها الوهن إلى جانب الدقة، إلى جانب الجمال المصاغ شللا من الشعر المنثور، وحللا من النثر المعقود، فتقول في نفسك وأنت تقف قارئا: أو غير ذلك يكون الأدب، في البرهة الساطعة؟
«كنت ماء جاريا أغسل به ذنوب الأواني/ صليت وصليت أني مهدورة/ وأن أصبح كأسا تجمع مائي».
روح حضارية متوثبة للحياة العصرية، إنما هي روح الشاعرة جنان خشوف في رائعتها: «السادسة والربع». تسجل خواطرها وتمضي ليومها. تعمل مثل الآخرين وربما أكثر منهم بقليل أو كثير. ولكنها حين تؤوب إلى كهف الروح، تبرز مثل الساحرة. تلتقط الأشياء العفوية، وتعيد نسجها، ثم تعيد لنا نسيجها. فإذا هي من رقع شمسها، حالما تدخل أشعتها إلى روحها، تبدد الظلمة الحالكة، وترخي عليها غلالة المتعة الصافية.«أنت الألوان في لوحة من فحم/ وصوت العصافير قبل أن تستيقظ المدينة».
في الوقت الذي تتفاقم العلاقات، وتتناطح الأفكار، وتكثر الهلوسات، ويعظم التشدّد والإستقواء، تعيدنا الشاعرة بحسن رسالتها والخاطرة، لتغيير مجرى الريح بالإيماء، وبالنظرة الخاطفة، تعيدنا لتغيير المفاهيم وتصويب المسارات، تعيدنا لمقتضيات الحياة العابرة، فلا شيء عندها للوهن، ولا للكسل، ولا للفراغ في النهارات وفي الليالي القاتلة، وإنما كل شيء للتحفّز والعودة من البرهة الخائبة.
«تمدّ شفاهها أربعة أمتار/... إفرشي أي شيء، لا يهم/ فقط لا تلطخي ثوبك الأخضر».
ما يعزز صورة الشاعرة جنان خشوف، هو هذا الديوان الذي يمتلئ بالشخصية القوية والغامضة، بالشخصية المستقلة والمتمردة على الأعراف في لحظة واحدة، بل ما يعزز صورتها هذه، هو ما تقوم به غداة مآتيها من شؤون وشجون أعمالها، بالرواح إلى مآتيها الأخرى، من شؤون وشجون شعرها وأدبها ورسائلها وتسجيلاتها. تلك التسجيلات العفوية، التي تمثل في أدبها، مثل القوة الناعمة.
«إجلس هنا وإصمت/ ودعني أعزف لنا حتى تسقط يداي/ كنت كلما وجدت بي ثقبا/ أخفيه بوشم».
جنان خشوف، صانعة الحوارات الدائمة، تذهب من الحوار الذهني، إلى الحوار العقلي، إلى الحوار العاطفي، إلى الحوار الفلسفي والنفسي. تظل تنسج في دنيا حواراتها، حتى الأغفاء والإغماء في حضن غيمة شاتية.«يدك التي تعرف كل شيء/ إبترها/ وأصبب كراهيتك قالبا ذهبيا مكانها».
تذهب من بكاء إلى بكاء، تعزف غصون القلب، تماما مثلما يعزف الشتاء أغصان الأشجار، فلا شيء يشفيها أو يشقيها، فهي متعة البرهة الصافية.
«كتفا على كتف/ عبر شطين متوازنين/... أسلّمك شامات جسدي وأمضي».جنان خشوف، في «السادسة والربع»، هي في أناقة الجملة الراقية، تبحث دوما عن تجديد موضة الجملة، تماما مثلما تبحث، عن تجديد موضة فستانها، تحبذ الفن المتقشّف، ولكنها تتأبى على علك الجمل المستهلكة. فليس الأمر عندها: الأناقة والفخامة، وإنما السياقات المفاجئة، ولو كانت في الغلالات الرقيقة. فليس الحنين إلى الماضي، إلّا للوثبة الحاضرة. توثب اللحظات، أم ترقبها وهي تثب على يديها، إنما تدخلها إلى سحر الشعر، حيث الخلاص هناك على بابه، لأن الشعر متحد بنفسه ولنفسه، يتحدّى جميع الأزمنة!
«صوتك ألحاني في ورع/ طيف سكيزوفرينيا كامن/ يستيقظ كلما أذوب/ فمك القابض على روحي/ يشهر قربانه للعوام/ يرفع قبضته للرب/ ويضحك».
أستاذ في الجامعة اللبنانية