اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ٢٩ تشرين الأول ٢٠٢٥
منذ آلاف السنين، شكّلت شجرة الزيتون رمزاً للسلام والبركة والصمود في وجه العواصف، وكانت وما زالت جزءاً أساسياً من الهوية اللبنانية، حيث تمتد جذورها في الأرض كما في الذاكرة، شاهدةً على حضاراتٍ تعاقبت وأجيالٍ عاشت من خيراتها.
جذور ضاربة في التاريخ
يُعتقد أن شجرة الزيتون وُجدت في لبنان منذ أكثر من ستة آلاف عام، وتشير الدراسات الأثرية إلى أنّ اللبنانيين القدماء زرعوها واستخرجوا زيتها منذ العصر الكنعاني والفينيقي. وقد لعب الفينيقيون دوراً محورياً في نشر زراعة الزيتون على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، فحملوا معهم البذور والزيت إلى قبرص ومالطا وإسبانيا وشمال إفريقيا.
رمز ديني وثقافي
لم تكن شجرة الزيتون مجرد مصدر غذاء أو رزق، بل تحوّلت إلى رمزٍ روحيٍ وثقافيٍ عميق. ورد ذكرها في الكتب السماوية الثلاثة، وغدت علامةً على الطهارة والسلام، حتى أنّ غصن الزيتون أصبح رمزاً عالمياً للسلام. وفي القرى اللبنانية، ما زالت الشجرة تُقدَّس وتُعتبر «شجرة مباركة»، تُورّث من جيلٍ إلى جيل كرمزٍ للأرض والجذور والانتماء.
أهمية شجرة الزيتون في الحياة اللبنانية
تُعتبر شجرة الزيتون من أكثر الأشجار تحمّلاً وصلابة، فهي تنمو في الأراضي الجبلية والوعرة، وتقاوم الجفاف والتقلّبات المناخية.
اقتصادياً، تُشكّل مصدر رزقٍ لآلاف العائلات الريفية، وتُسهم في الأمن الغذائي الوطني من خلال إنتاج الزيت والزيتون ومشتقاتهما التقليدية.
أما بيئياً، فهي من أكثر الأشجار قدرةً على تثبيت التربة ومكافحة التصحّر، مما يجعلها ركيزة أساسية في الحفاظ على التوازن البيئي في لبنان.
ومن الناحية التراثية، تمثل الزيتونة جزءاً من الهوية القروية اللبنانية، إذ ارتبطت بالأمثال الشعبية والأغاني والموروث الريفي، لتصبح رمزاً للعطاء والصمود.
الزيتون في القرى اللبنانية
تنتشر زراعة الزيتون في معظم المناطق اللبنانية، خصوصاً في الجنوب، وعكار، والبقاع الغربي، والكورة، وزغرتا، وكسروان.
وتُعدّ منطقتا الكورة والجنوب من أبرز المنتجين، حيث تُشكّل بساتين الزيتون مشهداً طبيعياً خلّاباً في مواسم القطاف التي تمتد من أكتوبر حتى ديسمبر.
أما أشجار الزيتون المعمّرة، فيُقال إنّ بعضها في بلدة بشعلي – قضاء البترون – يتجاوز عمره ألفي عام، ما يجعلها من أقدم الأشجار في العالم.
طقوس موسم القطاف
مع حلول الخريف، تتحوّل القرى اللبنانية إلى ورش عمل نابضة بالحياة.
تجتمع العائلات في الحقول لجمع الثمار، في أجواءٍ يغلب عليها الفرح والتراث.
تُفرش الشباك تحت الأشجار، وتُقطف الحبات يدوياً أو بالعصي الخفيفة، ثم تُنقل إلى المعاصر الحجرية أو الحديثة لعصرها واستخراج الزيت الطازج.
ويُعدّ موسم القطاف مناسبة اجتماعية تجمع الأهالي وتعيد إحياء الروابط الريفية القديمة التي تميّز المجتمع اللبناني.
معاناة القرى الحدودية في موسم الزيتون
في الجنوب اللبناني، حيث تمتد بساتين الزيتون على تخوم الحدود، يتحوّل موسم القطاف إلى معركة صبرٍ وصمودٍ.
يعيش المزارعون هناك بين الخطر الأمني المستمر والخسائر الاقتصادية الناتجة عن صعوبة الوصول إلى أراضيهم القريبة من مناطق التوتر.
كثيرون اضطروا إلى تأجيل أو إلغاء القطاف خوفاً من القصف أو الألغام، فيما يعاني آخرون من تلف المحاصيل بسبب غياب اليد العاملة أو إغلاق المعابر المؤقتة.
ورغم ذلك، يصرّ الأهالي على العودة إلى حقولهم كل عام، معتبرين أنّ التمسّك بشجرة الزيتون هو تمسك بالأرض والهوية، وأنّ القطاف في هذه الظروف رسالة تحدٍّ وصمود في وجه العدوان والحرمان.
الزيتون والاقتصاد اللبناني
رغم التحدّيات الاقتصادية التي يمرّ بها لبنان، تبقى زراعة الزيتون من الركائز الزراعية الأساسية. إذ يُقدَّر عدد الأشجار المزروعة بنحو 12 مليون شجرة، وتُسهم منتجات الزيت والزيتون في تأمين دخلٍ لآلاف العائلات، سواء عبر البيع المحلي أو التصدير.
وتسعى الجهات المعنية في السنوات الأخيرة إلى تطوير الصناعات التحويلية، مثل تعبئة الزيت بعبوات حديثة وتسويقه في الخارج تحت شعار «صُنع في لبنان»، ما يعزز فرص المنافسة في الأسواق العالمية.
فوضى قطاف الزيتون تؤثّر على جودة الإنتاج في لبنان
أشار المهندس إيلي فارس، رئيس مركز وزارة الزراعة في جزين، إلى أنّ العديد من المزارعين في لبنان يعتمدون أساليب عشوائية في زراعة الزيتون وقطافه وعصره، ما يؤثر سلباً على جودة الزيت ونوعيته.
وأوضح أن الفوضى تبدأ من لحظة القطف، حيث يُنقل الزيتون أحياناً في أكياس أو بطرق غير مناسبة، ما يؤدي إلى تلبّد الحبات وتلفها.
وشدّد على أهمية استخدام صناديق بلاستيكية مخصصة خلال عملية النقل من الحقل إلى المعصرة، لتفادي التكدّس الذي يُفقد الزيتون جزءاً من عصاره ويؤثر على الطعم والنوعية.
كما دعا إلى الإسراع في إيصال المحصول إلى المعصرة وعدم تركه ليومٍ أو أكثر، لما لذلك من تأثير مباشر على الجودة.
وفي ما يخص التخزين، أشار فارس إلى ضرورة حفظ الزيت في أوعية زجاجية أو من الستانلس ستيل، وتجنّب البلاستيك أو المواد غير الصحية، مشدّداً على أهمية إبعاده عن الضوء والحرارة للحفاظ على نكهته وفوائده.
كما تطرّق إلى اختلاف نوعية الزيت بين المناطق، موضحاً أن الزيت المنتج في الساحل يختلف عن ذاك في المرتفعات من حيث التركيبة والنكهة وحتى كمية العصارة.
واختتم بالتأكيد على أنّ الحفاظ على جودة زيت الزيتون اللبناني يتطلّب التزاماً صارماً بكل مراحل الإنتاج، من الحقل إلى الزجاجة.
مارون عزيز من بكاسين: شجرة الزيتون لم تعد تردّ كلفتها
تحدّث مارون عزيز، من بلدة بكاسين، عن رمزية شجرة الزيتون في منطقته، مشيراً إلى أن العائلات هناك مجذّرة تاريخياً بهذه الشجرة، سواء في زراعتها أو في موسم القطاف أو في تشغيل المعاصر.
ولفت إلى أنّ بكاسين كانت تضم عدداً من المعاصر التقليدية، وأن نحو 90% من الأراضي الزراعية فيها ما زالت مزروعة بأشجار الزيتون، بخلاف محاصيل الفاكهة الأخرى التي تراجعت زراعتها كالعنّاب والتفاح.
الحاجة أميرة حسن: شجرة الزيتون هي كرامة الإنسان ولن أتنازل عن أرضي
في عمر التسعين، لا تزال الحاجة أميرة حسن تجسّد صمود الإنسان اللبناني المتجذّر في أرضه، وهي تتابع أرضها بنفسها رغم التقدّم في السنّ والظروف الاقتصادية الصعبة.
تقول الحاجة أميرة: «شجرة الزيتون هي كرامة الإنسان. كل شيء ممكن أتنازل عنه إلّا عن أرضي».
هذه الكلمات تختصر علاقة اللبنانيين بالأرض، خاصة في القرى التي ما زالت تعتمد على الزيتون كمصدر رزق وذاكرة وهوية.
تحقيق: رامي ضاهر











































































