اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ٣ كانون الأول ٢٠٢٥
الرئيس فؤاد السنيورة
تثبت الوقائع التاريخية، كما يتبيّن من الرجوع إلى الوثائق والمراجع اللبنانية والعربية والدبلوماسية والدولية، أنَّ تحييد لبنان هو من أبرز ثوابت سياسة لبنان الخارجية الرسمية، وأن فكرة تحييد لبنان ليست فكرة طارئة على المفكرة السياسية اللبنانية، بل إنها في أساس نشأة الدولة اللبنانية. فنشأة لبنان التاريخية وتكوينه وتركيبته الاجتماعية والسياسية، وسياسته الخارجية، وفي معظم الأحيان، كانت بالفعل تُنبئُ بهذه الحالة التي ميَّزت لبنان عن غيره من الدول العربية التي انضمّت إلى جامعة الدول العربية.
فلبنان، ونظراً لموقعه الاستراتيجي في المنطقة العربية، وبسبب تركيبته الاجتماعية والسياسية، أختطّ لنفسه سياسة خارجية منفتحة تقوم على ثابتتين: مع العرب في أي موقف أو قضية عند توافقهم وتضامنهم، ومع الحياد عند اختلافهم، ولا سيما إذا كان الخلاف مردّه إلى نزاعات فيما بينهم. والهدف من ذلك ممارسة الحرص والتبصّر كي لا ينجرف لبنان إلى أن يكون طرفاً في الصراعات أو النزاعات التي يُمكن أن تنشب بين بعض تلك الدول، والتي يمكن أن تؤثر على وحدته الداخلية أو تماسكه الوطني. ومع الوقت أصبح تحييد لبنان ثابتة من ثوابت سياسة لبنان الخارجية الرسمية، وهذا ما جعله يتخذ هذا المسار التاريخي منذ الميثاق الوطني واستقلاله في العام 1943.
ولقد خدمت هذه السياسة لبنان في المراحل الأولى، وعلى وجه الخصوص، بعد أن نال لبنان استقلاله، وحيث لاقت هذه السياسة الاحترام والتفهّم والتجاوب من قبل معظم الدول العربية. ذلك مما مكَّن لبنان من أن يشهد استقراراً ونجاحاً وازدهاراً في جميع المجالات، وبات لبنان بالتالي مقصداً لكل الدول العربية، حيث حظي باستقرار أمني واجتماعي واقتصادي وحضاري مشهود لم ترَ له مثيلاً أي من الدول العربية الأخرى في تلك المرحلة.
إلّا أنّ هذا الوضع لم يدم طويلاً بعد ذلك، حيث دخلت الاصطفافات والصدمات والتحديات السياسية الداخلية والإقليمية في عمق الحياة السياسية الداخلية والخارجية والأمنية اللبنانية، واخترقت تلك الاصطفافات والتحزبات الطوائف والقوى السياسية على تعدّدها وتنوّعها، مما أحدث وعمّق الخروقات في البنية السياسية والاجتماعية والوطنية للبنان، والتي انعكست بدورها على حالة الاستقرار في البلاد. ذلك ما أدَّى إلى أن ينفجر الوضع الداخلي اللبناني في العام 1958، حيث تسببت الحروب الداخلية بدمار كبير وخسارات فادحة، جرى احتواؤها بعد ذلك من خلال توافق داخلي وإقليمي. ولعلّ أوضح مثال على عناصر تحقيق ذلك التوافق، ما أسهمت فيه مبادرة هامة حصلت باتجاه تحييد لبنان بشكلٍ عملي لجهة تصويب التوجهات، والتي تمثلت بذلك اللقاء التاريخي الذي تمّ بين الرئيس فؤاد شهاب والرئيس جمال عبد الناصر في خيمة على الحدود اللبنانية - السورية في 25/03/1959، والذي أكَّد فيه الرئيس عبد الناصر وجوب تحييد لبنان عن تلك الصراعات الإقليمية.
إلّا أنّ الوضع اللبناني بقي بعد ذلك عرضة لتأثيرات الصدمات الكبرى والمتكررة التي كانت تحصل في المنطقة العربية، حيث تجدّد الخلاف بعد الحرب التي نشبت في العام 1967، ولا سيما مع تحوّل منظمة التحرير الفلسطينية إلى قوة عسكرية وسياسية داخلية في لبنان، وتحديداً بعد التحوّل الكبير الذي حصل بعد التوصل إلى توقيع اتفاق القاهرة في العام 1969 الذي حوّل لبنان إلى دولة مواجهة وساحة من ساحات الصراعات العربية، وساحة للصراع العربي - الإسرائيلي وللخلافات الإقليمية وصندوقة بريد لتبادل الرسائل بما ذلك الرسائل الدموية في أحيان ليست بالقليلة. ذلك على الرغم من إقرار الدول العربية انّ لبنان لن يكون دولة مواجهة، ولكن فقط دولة مساندة.هذه المتغيّرات والتحوّلات، أسهمت في تشكيل أسباب جديدة أدّت بالتالي إلى اشتعال الحرب الداخلية اللبنانية التي انفجرت في العام 1975. وهو بالتالي ما سمح وشجّع على دخول عناصر ودوافع إقليمية وعربية، أجّجت الصراعات الداخلية اللبنانية لتتخذ بدورها أبعاداً مختلفة، والتي استمرّت متأججة إلى أن حصل اتفاق الطائف في العام 1989 الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية، ودفع باتجاه تعديل الدستور اللبناني وإعادة بناء المؤسسات الدستورية في العام 1990، والذي بدأت معه جهود إعادة الإعمار وبدء العمل من جديد من أجل تحقيق النمو والتنمية المناطقية، لتعيد إلى لبنان وهجه وحضوره العربي والدولي.
الإنجاز الأكبر على هذا الصعيد، هو ما تضمنه اتفاق الطائف وأصبح جزءاً من الدستور اللبناني في مقدمته، بأن: لبنان وطن سيد حرّ مستقل، ووطن نهائي لجميع أبنائه، واحد أرضاً وشعباً ومؤسسات، وهو ما أسهم في تحرير لبنان من أي قيود أو ارتباطات خارجية وإقليمية، وأقرّ بنهائيته وانضمامه إلى حضنه العربي الطبيعي، وذلك كما جاء في الفقرة الثانية من المقدمة التي تنص على أن: «لبنان عربي الهوية والانتماء».
في الحقيقة، وللأسف، إنّ سياسة تحييد لبنان التي اعتمدت في العهود الأولى من الاستقلال لم يجرِ تعزيزها، ولم تجرِ المحافظة عليها. كما أنّ مبدأ النأي بالنفس، وهو الوجه السياسي لنظام التحييد القانوني الذي التزمت به البيانات الوزارية للحكومات اللبنانية المتعاقبة، جرى الانقلاب عليه عملياً، حيث لم يحسن اللبنانيون التعامل مع هذا المبدأ. وذلك ما أدّى بدوره إلى أن يخسر لبنان جزءاً هاماً من المكتسبات التي حققها بعد انضمامه إلى جامعة الدول العربية، وتوقيعه لاتفاقية الهدنة مع إسرائيل في العام 1949. ذلك بالإضافة إلى استناده إلى قواعد الميثاق الوطني في العام 1943 الذي أسّس لاستقلال لبنان على قاعدة لا شرق ولا غرب في بناء دولة وطنية مستقلة وسيدة.
لذلك، ومنذ توقيع اتفاق الطائف، بدأ الميزان السياسي اللبناني بالاختلال نتيجة الدور الاستثنائي الذي أعطى لسوريا كوصي على الوضع اللبناني، وعلى المؤسسات الدستورية اللبنانية، وعلى تطبيق اتفاق الطائف، وحيث ازداد هذا الميزان اختلالاً مع استمرار ازدواجية السلطة والنفوذ والسلاح في لبنان، ولا سيما مع تزايد النفوذ الإيراني في المنطقة وعبر سوريا. وكان من أهم تجليات ذلك، التوجه لتوريط لبنان في الحرب التي شنّتها إسرائيل على لبنان في العام 2006، والتي صدر على أثرها القرار الدولي 1701 التي كان يفترض بلبنان أن يحترمه ويلتزم به، ولكن للأسف لم يجرِ التقيّد بهذا القرار لا من قبل حزب الله ولا من قبل إسرائيل. وهو الامر الذي أعاد لبنان من جديد الى ساحة من ساحات الصراع الإقليمي والدولي.
عقب ذلك، كان ما حمله إقرار إعلان بعبدا لسنة 2012، والذي اجتمعت عليه إرادة اللبنانيين بإجماع القيادات والقوى السياسية المشاركة في هيئة الحوار الوطني، والتي أجمعت على تحييد لبنان عن المحاور والصراعات الإقليمية والدولية، التي بدأت تسود في المنطقة العربية، وذلك لضمان سلام لبنان وأمنه وازدهاره والحفاظ على استقلاله وسيادته.
المؤسف أن هذا الإعلان جرى التملّص والتنكّر له والخروج عليه بضغط من حزب الله مما أثّر سلباً على مبدأ تحييد لبنان، وهو الأمر الذي تجدّد مع الزجّ بلبنان من جديد في السابع من أكتوبر العام 2023 نتيجة اعتماد حزب الله، وبدعم من إيران، لسياسة الأشغال والمساندة التي أطلقها الحزب، وأدّت إلى توريط جديد للبنان في عملية طوفان الأقصى. وهو ما أدَّى بدوره إلى إدخال لبنان في أتون مشكلات وتداعيات لا تتوقف طالما استمرّت ازدواجية السلطة وازدواجية السلاح في لبنان.
لقد بيّنت الأحداث التي مرّت على لبنان، ولا سيما في الحروب التي شنّتها إسرائيل على لبنان في العام 2006، وبعد ذلك في الأعوام الثلاثة 2023 - 2024 و2025، بكونها شكّلت شذوذاً على الخط البياني لقواعد السياسة الخارجية التي انتهجها لبنان منذ الاستقلال والمبنية على أساس تحييد لبنان عن الصراعات الإقليمية والدولية، وهي السياسة التي كان لها الدور الكبير في ما نَعِمَ لبنان به من استقرار وازدهار في تلك الفترات.
نقول، في الحقيقة، انّ لبنان اليوم ليس بحاجة إلى إعلان جديد لتحييده أو للاعتراف بتحييده، والذي هو في أساس أصل نشأته وتكوينه، وحيث جاء الدستور واضحاً ومعبراً عن تحييد لبنان. هذا فضلاً عن حقيقة المسار التاريخي للبنان، ومن ذلك ما يؤكده الميثاق الوطني، وما جرى تأكيده مؤخراً في خطاب قسم رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون في 09/01/2025، وهو رئيس الدولة. وما تمّ تأكيده أيضاً في البيان الوزاري الأخير لحكومة الرئيس نواف سلام في 26/02/2025 ليؤكِّد هذا المؤكّد.
بالفعل، لبنان قد بات بحاجة ماسّة للعودة إلى الالتزام بتطبيق كامل وصادق ونزيه لاتفاق الطائف، لكي يعود لبنان وطناً لكل أبنائه وليس ساحة للصراعات المدمرة.
كما أنّ لبنان، قد بات بحاجة ماسّة أيضاً لأن تبسط الدولة اللبنانية سلطتها على جميع أراضيها ومرافقها، بما يعني أن تستعيد الدولة اللبنانية حصرية السلاح بيد أجهزتها العسكرية والأمنية الشرعية، وكذلك أن تستعيد قرارها الحرّ في إدارتها للدولة ولشؤون المواطنين. ومن ذلك، ولا سيما قرارها الحرّ في ما يتعلق بمسائل الحرب والسلم في لبنان.
المطلوب الآن ممارسة صحيحة وملتزمة بهذه المبادئ دون أي اعوجاج أو تلكؤ أو تقاعس فيه، بل التزام فعلي بها كيما يستعيد لبنان ازدهاره وتطوّره ونمائه، ويستعيد اللبنانيون وحدتهم وتضامنهم.
كلمة ألقاها الدكتور خالد قباني نيابة عن الرئيس فؤاد السنيورة في اللقاء التشاوري - حياد لبنان الرسمي في إطار جامعة الدول العربية











































































