اخبار لبنان
موقع كل يوم -صيدا اون لاين
نشر بتاريخ: ٢٢ تشرين الثاني ٢٠٢٥
'سيْف ذو حدّيْن'، هكذا كانت الهجرة وستبقى. من جهة تعتبر الرافد الأساسي للاقتصاد، لا سيّما مع تطوّر الأزمات الاقتصاديّة التي عصفت بلبنان حيث شكّلت متنفسًّا للبنانيين يخفف عنه تداعيات الأزمة، لكنها في الوقت عينه كانت تتوسع بشكل دراماتيكي لتحرم البلد من الكفاءات العالية التي يُمكن أنْ تُسهم بشكلٍ ما في نهوضه، لا سيّما مع القفزات الكبيرة التي عرفها العالم في التكنولوجيا وغيرها من متطلبات قيام الدولة.
'تعود ظاهرة الهجرة اللبنانية إلى المهاجر الأوّل عام 1854، وهي مسألة قديمة مُتجدّدة'، وفق ما يُوضح الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين، الذي يُلخص أسباب الهجرة بأربعة عوامل أساسيّة:
أوّلًا، اللبناني مفطور بطبيعته على حب السفر والانفتاح على العالم. ثانيًا، تدفع الظروف الاقتصادية والاجتماعية المتدهورة إلى البحث عن بدائل خارجية. ثالثًا، تشكّل الأوضاع الأمنية والحروب سببًا إضافيًا للهجرة. ورابعًا، يسعى كثيرون إلى تحسين ظروف حياتهم والبحث عن فرص أفضل في الخارج'، مؤكّدًا أنه 'كلما تزامنت هذه العوامل الأربعة، ارتفعت أعداد المهاجرين والمسافرين من لبنان'.
وفي ما يتعلّق بأعداد اللبنانيين المنتشرين في أنحاء العالم، يُشير شمس الدين لـ 'نداء الوطن'، إلى أنه 'يُقدَّر عدد ذوي الأصول اللبنانية حول العالم بنحو عشرة ملايين شخص'، لكنه يُوضح أن 'عدد الذين ما زالوا يقيمون في الخارج ويحملون الجنسية اللبنانية يُقارب مليونًا وثمانمائة ألف'.
ويُردف قائلًا: 'وقد غادر نحو ثمانمائة ألف شخص بين عامي 2012 و2024. على سبيل المثال، بلغ عدد المغادرين في عام 2012 حوالى 49 ألفًا، وقفز الرقم في ظل الأوضاع الصعبة عام 2021 ليصل إلى 79,134 وفي عامي 2023 و2024، سجّلت الأعداد 180,033 و172.728 على التوالي. وبذلك، بلغ مجموع المغادرين بين 2012 و2024 نحو 798,911 شخصًا. أما من بداية عام 2025 حتى نهاية شهر أيلول، فقد غادر ما يقارب 40 ألف شخص'.
شريحة الشباب
وهنا يُضيء شمس الدين على مسألة هامّة ألا وهي أن 'البيانات تُظهر أن أكثر من 70 % من المهاجرين ينتمون إلى الفئة الشابة التي تتراوح أعمارها بين 25 و35 عامًا، الأمر الذي يشكّل خسارة كبيرة، خصوصًا أن غالبية هؤلاء من أصحاب الكفاءات والخبرات.
وتتوافق هذه المعطيات مع ما يُشير إليه الخبير الاقتصادي وليد أبو سليمان، حيثُ أوضح لـ 'نداء الوطن' أنه 'لنقل إنه منذ اندلاع الأزمة حتى اليوم، غادر لبنان ما يزيد عن ستمئة ألف شخص، ويُشكّل الشباب والقوى العاملة نحو 70 % من هؤلاء المغادرين. وبذلك أصبح المجتمع اللبناني بمعظمه مجتمعًا غير منتج، الأمر الذي ينعكس سلبًا على الإنتاجية وعلى معدلات النمو الاقتصادي، إذ إن خروج فئة الشباب والقوى العاملة يُضعف القدرة على النهوض الاقتصادي'.
حدٌّ من البطالة
على الرغم من الآثار السلبيّة للهجرة على الصعيد الداخلي، إلّا أنها في المقابل لها دور إيجابي في الحدّ من البطالة، وهنا يلفت شمس الدين إلى أن 'الظروف الاقتصادية المتدهورة في لبنان تحدّ من فرص العمل أمام هذه الكفاءات، ما يجعل الهجرة خيارًا واقعيًا لتفادي البطالة. فالهجرة اليوم تؤدي دورًا مهمًا في الحدّ من البطالة داخليًا، كما توفر موردًا أساسيًا للأسر عبر التحويلات المالية'.
في هذا الإطار، يُقدّر أن 'عدد الأسر التي تتلقى تحويلات من لبنانيين عاملين في الخارج بنحو مليون أسرة. وقد بلغت التحويلات عبر القنوات الرسمية، أي عبر المصارف، ما بين 6 و7 مليارات دولار. إلّا أن حجم التحويلات الفعلي يصل إلى نحو 18 مليار دولار، إذ إن ما يزيد على 10 مليارات يصل نقدًا من أفريقيا وأوروبا وأميركا ودول الخليج. ويُذكر أنه عند حادثة طائرة كوتونو القادمة من أفريقيا في فترة عيدَي الميلاد ورأس السنة، قيل إنها كانت تحمل نقدًا ما يقارب 350 مليون دولار. وتشكل هذه المبالغ 'الأوكسيجين' الذي يعيش منه جزء كبير من اللبنانيين اليوم'.
وهو ما يلفت إليه أيضًا أبو سليمان، حيث يُوضح أنه 'لناحية الإيجابيات، يمكن القول إن جزءًا من الشباب الذين لم يجدوا فرص عمل محلية - بحكم أن سوق العمل اللبناني لا يستوعب أكثر من 10 إلى 15 % من خريجي الجامعات - اتجهوا إلى الخارج بحثًا عن فرص أفضل. وهؤلاء، بعد انتقالهم إلى مرحلة الاغتراب، يرفدون الاقتصاد بتحويلاتهم المالية. ومن اللافت أن تحويلات المغتربين لا تزال ثابتة ولم تنخفض، بل ساهمت بوضوح في تجنب الانهيار الشامل خلال السنوات الماضية'.
تداعيات سلبيّة
ورغم كل الإيجابيات الحالية للهجرة، فإن لها تداعيات سلبية على المدى البعيد، وفي هذا الصدد يتوقع شمس الدين أن 'تصبح غالبية المقيمين في لبنان من الفئات المتقدمة في العمر وغير القادرة على العمل والإنتاج، ما سيزيد الحاجة إلى العمالة الأجنبية. كما أن المهاجرين، ولا سيما الموجودين في الدول الأفريقية والعربية، سيعودون بعد عشرة أو عشرين أو ثلاثين عامًا من دون حصولهم على جنسية تلك الدول. هؤلاء غادروا شبابًا وحوّلوا الأموال لأهاليهم، لكنهم سيعودون متقدمين في السن ويحتاجون إلى الرعاية والخدمات. وعليه، فإن الهجرة تُعدّ إيجابية في المرحلة الراهنة، لكنها مرشحة لإحداث آثار سلبية على المدى الطويل'.
من جهته، يُوضح أبو سليمان أنه 'على مستوى الخسائر، صحيح أننا شهدنا خسائر مالية كبيرة خلال الأزمة، لكن الخسارة التي لا يمكن تعويضها هي هجرة الأدمغة. وهجرة الأدمغة اقتصاديًّا تُعتبر الأخطر، لما لها من تداعيات مباشرة على القطاعات الحيوية، فعند الحديث عن الأدمغة نتحدث عن القطاع الطبي، والقطاع الهندسي، وقطاعات الإنتاج التكنولوجي، وهي قطاعات أساسية في اقتصاد اليوم، خصوصًا في ظل بلوغ اقتصاد المعرفة نحو 50 % من الاقتصاد الأوروبي. كل ذلك يشكّل خسائر استراتيجية للاقتصاد الوطني.
يختم أبو سليمان بالقول: 'مع ذلك، وعلى الرغم من هذه الإيجابيات المحدودة، تبقى السلبيات أكبر بكثير، كما أشرنا، لا سيما على مستوى خسارة الكفاءات وتأثيرها البنيوي على مستقبل الاقتصاد اللبناني'











































































