اخبار لبنان
موقع كل يوم -الهديل
نشر بتاريخ: ١١ أب ٢٠٢٥
خاص الهديل…
قهرمان مصطفى
شاب لم يتجاوز الثلاثين من عمره، يحمل كاميرته، لا سلاح له إلا عين ترى بصدق، وصوت ينقل وجع الناس. يوثق صرخات الأطفال الجائعين، يركض بين الخيام الممزقة في غزة، يسابق الوقت لينقل صورة، أو يسجل شهادة. أنس الشايب، لم يكن يبحث عن مجد شخصي، بل كان يصرخ للعالم: 'انظروا ماذا يحدث هنا!'
لكن في وطن يُقتل فيه الشهود عمداً، لم ينجُ أنس. قُصف في خيمته بمجمّع الشفاء الطبي، في قصف إسرائيلي متعمّد، لا يمكن تبريره بأي لغة أو منطق.. قُصف لأنه صحفي، لأنه شاهد، ولأنه كان يفضح جريمةً مستمرةً منذ عقود.
لم يكن استشهاد أنس الشايب صدمة منعزلة. بل امتداداً دامياً لمسار طويل من استهداف الصحفيين الفلسطينيين؛ فقبل أنس، كانت شيرين، وغيرها الكثيرون.
شيرين أبو عاقلة، الوجه والصوت والضمير. قبل ثلاث سنوات، التي استُشهدت برصاصة قناص إسرائيلي في جنين، وهي ترتدي السترة الصحفية والخوذة، كأن الرصاصة أرادت أن تخرس الحقيقة، أن تقتل الحكاية، أن تمحو الذاكرة.
يبدو اغتيال شيرين اليوم لكثيرين كأنه 'حادثة قديمة'، وسط هول المجازر اليومية في غزة. لكن الجريمة لم تكن حدثاً عابراً، بل إعلاناً واضحاً أن إسرائيل تتعامل مع الكاميرا كتهديد، ومع الصحفي كعدو، ومع الحقيقة كخطر وجودي.
أنس، كما شيرين، لم يحمل سلاحاً؛ كان يحمل الكاميرا، ويقف في قلب الألم، يحتمي بخيمة ، لا خلف متراس عسكري. ومع ذلك، استُهدف، واستُشهد، وكأن الاحتلال يقول مجدداً: كل من يوثق، يجب أن يُمحى.
ولا يقف الأمر عند أنس وشيرين. بل هناك قائمة طويلة من الصحفيين الفلسطينيين الذين تم استهدافهم عمدا، في منازلهم، أو خلال تغطياتهم الميدانية، أو حتى داخل خيامهم مثل أنس. عشرات الشهداء من الصحفيين سقطوا في العدوان الأخير على غزة وحده، بعضهم لم تُرفع جثته بعد من تحت الأنقاض.
لكن السؤال إذاً ليس: من القادم؟ بل: إلى متى؟
إلى متى يبقى الصحفي الفلسطيني هدفاً مشروعاً؟
إلى متى تُغضّ المؤسسات الدولية الطرف عن الجرائم بحق الإعلاميين؟
إلى متى ستبقى الحقيقة تُقتل كل يوم، ولا أحد يحاسب القاتل؟
غطرسة الاحتلال في التعامل مع الصحفيين تكشف عري الرواية الإسرائيلية أمام عدسة الكاميرا. لأن الصحفي لا يختلق الحقيقة، بل يكشفها، وفضح الاحتلال هو جريمة لا تُغتفر في نظر من اعتاد أن يتحكم بالصورة والرواية.
ومع كل ذلك، لا يتراجع الصحفي الفلسطيني. لا أنس تراجع، ولا شيرين، ولا يوسف أبو دقة، ولا محمد أبو هربيد، ولا يوسف شحادة، ولا غيرهم ممن قضوا وهم يحرسون الذاكرة، ويكتبون بدمهم أن الحكاية لن تموت.
من شيرين إلى أنس، هناك خيط دمٍ وكاميرا، بين جنين وغزة، بين الكلمة والصورة، بين الاحتلال والحقيقة. خيط لا يمكن للاحتلال أن يقطعه، مهما كثرت رصاصاته.
وفي النهاية، سيبقى الصحفي الفلسطيني على الجبهة، يحمل الكاميرا في وجه الدبابة، يقف وسط الركام، يوثق، يروي، ويكتب: نحن هنا. لم نُمحَ. ولن نصمت.