اخبار لبنان
موقع كل يوم -نداء الوطن
نشر بتاريخ: ٣٠ أيار ٢٠٢٥
الانتخاب سلوك تعتمده الدول التي تعتنق النهج الديمقراطي، لتعزيز رأي الفرد ومنحه الحقّ في اختيار ممثليه. في لبنان، يتدرّج هذا الحقّ، أو ينحدر، على سُلَّمٍ اجتماعيّ معقَّد، يبدأ بالتعصُّب ويرتقي إلى التجرّد باتخاذ القرار. تدخل في تحديد موقع وموقف الناخب عدة عوامل، منها المستوى الثقافي، الوضع الاجتماعي، البيئة المحيطة، وغيرها. فهل الانتخابات في لبنان هي حقاً ديمقراطية؟
الإعلام يرفع سقف الدلالات
إبان الانتخابات البلدية الأخيرة، استبدل بعض الإعلام اللبناني التعابير الديمقراطية بأخرى ترتبط بالمعارك أو حتى جَمَعها معاً، لتصبح oxymor، أو جمع الضدّين في عبارة: 'معركة ديمقراطية'. أحد المواقع الإلكترونية صوَّر الانتخابات في تبنين، مسقط رأس الرئيس نبيه بري، بأنها 'معركة انتخابية حامية بامتياز'، وقد تكرر التعبير في عدة بلدات، في حين أن الكلمة ومشتقاتها: معركة، عراك... تصوِّر حالة مختلفة من المواجهة.
في مكان آخر 'استحقَّت بلدة فنيدق لقب أم المعارك' في عكار، بحسب وصف وسيلة إعلامية مكتوبة. ثم 'يشطح' كاتب المقال بعد عدة سطور، ليعلن عن 'معارك كرّ وفرّ' في بلدة البيرة العكاريّة، وكأنه يضع القارئ أمام جيشين على وشك الالتحام. وبصورة مشابهة عنونت إحدى المحطات التلفزيونية تقريرها بعبارة: 'جبهة بيروت فُتِحت'.
بعدها، يبرز عنوان حاسم، 'معارك طاحنة في هذه البلدات...'، فلا يسع المشاهد إلا الدخول واكتشاف حقيقة ما يحصل. إن غالبية التسميات المعتمدة أو المتداولة تشير إلى تقسيمات عسكرية، مثل: 'جبهة واحدة'، 'حاملين رايتك'، 'حصل اختراق'، وغيرها... حتى تسمية 'ماكينة انتخابية' لا تخلو من الانغماس في التطرف لجهة ضد أخرى، بحيث تدل الكلمة على مدى التزام الفريق بالعمل. تبدأ بالعقل التنظيمي، تعمل على الأرض من دون عواطف وتؤكد عدم إمكانية إعادة النظر بالخيارات، ليصبح العمل ميكانيكياً بحتاً.
لعبة الانتخابات ورقعة الشطرنج
يصف الباحث الدكتور رمزي أبو شقرا المتخصص بعلوم اللسانيات في حديث لـ 'نداء الوطن'، لعبة الشطرنج بأنها لجمت النزعة العنيفة عند الإنسان وحوّلتها إلى صراع عقليّ. تماماً كما حوّل مؤسسو المذهب الديمقراطي (في أثينا) الصراع على السلطة من دموي إلى انتخابي. لكن التعابير الدّالة لم تتبدّل لا في الأولى ولا في الثانية، فبقيت أوصاف المعركة على رقعة الشطرنج كما كانت: هجوم، دفاع، حصار، التضحية بالبيادق... وبقيت في المقابل عبارات: جبهة، كسر عضم، معركة طاحنة، أم المعارك... في التنافس الانتخابي.
ويضيف د. أبو شقرا أن السبب الرئيسي باستخدام هذه التعابير يعود إلى حالة التعصّب التي عادة ما ترافق الانتخابات بالإجمال، والانتخابات البلدية على وجه الخصوص. فكلمة تعصّب مصدرها العُصبة، وتعني الجماعة المتماسكة. وهو تشبيه مستعار من عصبة الطيور كون الأخيرة لا تطير من دون قائد. ونحن كعرب، قد نكون أكثر تعلقاً من المجتمعات الأخرى بالعصبيات. والدليل المثل المصري الشعبي الذي يقول: 'خرّوبة دمّ ولا قنطار صَحابة'، في إشارة إلى أهمية الارتباط بالدم والتعصُّب له. 'فالخروبة'، يُقصد بها هنا قطرة الدمّ، كونها تمثّل وزناً ثابتاً لا يتغيّر، وقد كانت مقياساً لتجار الذهب، حيث كانت تسمى قيراطاً.
كما حال الملك على رقعة الشطرنج، تدور المعركة الانتخابية حول الرئيس. كِلا المعركتين يحمل عنفاً رمزياً، في الأولى مستتر بمسمّى لعبة، وفي الثانية بعنوان: ديمقراطية، وتبقى التعابير الحربية والصدامية واضحة في الاثنتين.
ويتابع، أنه عندما تُستخدم التعابير الحربية في الانتخابات يعيشها الجميع على أنها معركة. لذلك نرى أن الانتصار أو الفوز يرافقه ابتهاج، بصورة غير قانونية، إطلاق للنار، وبأفضل الحالات مفرقعات نارية، وكأنّ الفائز هو منتصرٌ في معركة حُرم فيها سماع الانفجارات والذخائر فراح يعوِّض ما فاته.
شدّ العصب أو الزوال... هكذا يوهموننا
يضيف الدكتور أبو شقرا، أن أحد المفاتيح لفهم جوهر التعصُّب هو إسقاط الهوية الفردية على الهوية الجماعية وبالعكس. فهوية الفرد بحاجة إلى ما يثمّنها في العلاقة بين الإنسان ونفسه، وبين الشخص والجماعة على مستويات الآراء والممارسات. ومن هنا دور الحزب والتحزّب، وهذا قديم قِدَم المجتمعات.
ويختم بالقول، إن الديمقراطية بما هي، ممارسة للحرية، حالة فكرية نسبية ونسبيّة جداً، ولا يكفي أن يطالب المواطن ببرنامج عمل المرشح لكي يبرهن استقلاليته، وإنما عليه أن يناقَش قبل الاستحقاق بكثير هنا، لكي لا يكون العامل الزمني عامل ضغط يؤثر على الوعي السياسي واتخاذ القرارات الشخصية.
تبدأ البروفسورة بولا كلّاس، أستاذة علم النفس، حديثها لـ 'نداء الوطن' بأسئلة تحمل أجوبتها في كلماتها: 'هل حقاً وصلنا كلبنانيين إلى انتخابات ديمقراطية؟ بالشكل لدينا ما يسمى بالانتخابات، ولكن ما هو تعريفنا للديمقراطية؟ على مستوى الأحزاب، إن استخدام عبارات صدامية من قبل حزب سياسي ضد آخر، يشير إلى عدم فهم دور الأحزاب في العملية الانتخابية، هذا من وجهة نظر علمية صرفة. أما على الصعيد الاجتماعي، فلبنان مكوّن من مجموعات متعدّدة، وقد اختبرت جميعها، بمراحل متفاوتة، صراع الوجود والدفاع عن الهوية، وآخر مجموعة اختبرتها هي مجموعة 'حزب الله' أو القوى الشيعية.
هذه المجموعات، غالباً ما توحي لمناصريها إبان الانتخابات بأن هويتهم، أو حتى وجودهم مهدّدان. تخاطب عصبيتهم العميقة الجذور، وغالباً ما تنجح ببث العصبية فيهم، ذلك لأن ذاكرة لبنان مليئة بالحروب والاحتلالات والتحرر. فعندما يقولون معركة كسر عضم، هم يستنهضون القوى البشرية، فيستجيب الناس، كونهم اكتسبوا على مرّ السنوات شعوراً بعدم القدرة على التغيير. لذلك ومنعاً للتخاذل تبثّ الماكينات الانتخابية هذه التعابير بقصد التجييش، والإيحاء بأنها الفرصة الأخيرة قبل الزوال'.
أما عن التعصُّب، فتتابع البروفيسورة كلّاس، أنه 'وفقاً لعدة دراسات أجريت، تبيّن أن كل المجموعات تمرّ بصراع بين الحرية الشخصية والانتماء للجماعة، ثم لا يلبث الفرد أن يشعر بأن وجوده لا يمكن أن يتحقق بمعزل عنها، فتتضخم تلك المشاعر ويطول أمدها، خصوصاً إذا غذّتها تهديدات من مجموعات أخرى، عندها تتعمّق أكثر فأكثر ليصل الفرد إلى ما يسمى الـ Effet janis، وهو سلوك يتجمع فيه الأفراد حول موقف أو حكم جماعي بغض النظر عن رأيهم الخاص. لكن هذه المرحلة يجب أن تؤسس لمرحلة تالية، وهي الانطلاق نحو الآخر، والإقرار بأنه موجود، وأن وجوده لا يهدّد وجودي، فينتهي التعصب'.
التعصّب، برأيها، 'واحد مهما كان نوعه، وهو ضروري في بداية الأمر، كونه يعطي الأفراد الأمان المطلوب، لكن الانطلاق منه نحو الآخر هو ضرورة لا بدّ منها. فبحسب ابن خلدون، البقاء في المجموعة دون تطويرها وتأقلمها مع محيطها، يجعلها عرضة للانهيار من الداخل، أو حتى إلى الزوال'.
منطق الدولة هو الملاذ
تختم د. كلّاس بالقول، إنه 'في حين يتوجه العالم اليوم إلى الفرديّة، تجدنا في لبنان متمسكين بمجموعاتنا. فممارسة التعصب يختلف بين مجتمع وآخر بحسب تجربة كل منه، وبحسب نسبة النضوج الاجتماعي. يقول Rene’ Kaes، عالم النفس والأكاديمي الفرنسي، إنه كما يوجد جهاز نفسي فردي يطوّر شخصية الفرد، كذلك للجماعات أجهزتها النفسية الخاصة التي تجعلها تمر بذات المسار التطوري، لتصل إلى ما يسمى بمجتمع ناضج أو سوي.
شئنا أم أبينا، أثر الإقطاع الاجتماعي ما زال موجوداً في لبنان، لذلك تجدنا ننشد الأمان ونتجه دائماً إلى الجيش وأهمية الأمان الذي يوفره للأفراد. أما على الصعيد السياسي، فلم نرَ أي تطور ملموس، وبالتالي، بقيت الانتخابات الأخيرة رهن العصبيات، مع بعض التفاوت الطفيف بين المكونات من ناحية التحرُّر.
لكن لو عدنا إلى كلام فخامة الرئيس جوزاف عون إبان الانتخابات البلدية الأخيرة، حين دعا الناخبين للتصويت بكثافة للمشاريع وليس للأشخاص، لتيقنّا بأن لبنان على الطريق الصحيح، وأننا أصبحنا على حدود الانطلاق من الجماعة إلى الوطن'.