اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة الديار
نشر بتاريخ: ٧ أيار ٢٠٢٥
بعيدا عن الدمار المرئي للانهيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تتكشف أزمة حيوية تُغفل غالبا: البيئة اللبنانية، المهددة بالنزاع وتغير المناخ معا. هذه الحالة الطارئة الصامتة تتفاقم دون أن يلاحظها أحد، مما يثقل كاهل الأجيال القادمة.
لبنان، هذا البلد الصغير الذي تأثر مرارا بالصراعات الإقليمية والدولية، يتحمل اليوم العواقب البيئية المدمرة لتلك الحروب. فالدمار الناجم عن القنابل والصواريخ يتجاوز الأبنية والبنية التحتية، ليترك وراءه تربة وهواء ومياه ملوثة كيميائيًا.
إنّ تدمير البنية التحتية، لا سيما شبكات المياه والصرف الصحي، يترك آثارا بيئية كارثية. في حرب 2006 مثلًا، تسربت كميات ضخمة من الوقود من محطات توليد الكهرباء إلى البحر الأبيض المتوسط، مما أدى إلى واحدة من أسوأ الكوارث البيئية البحرية في تاريخ البلاد. كما أن النفايات الناتجة عن النزوح الداخلي وإيواء آلاف العائلات في مناطق غير مهيأة سكنيًا، شكّلت عبئًا إضافيًا على البيئة الطبيعية.
أما في حرب 2024، فقد تكررت المأساة البيئية بأشكال أكثر حدّة، مع استهداف منشآت حيوية للمياه والكهرباء، وتسرب ملوثات كيميائية وصناعية إلى التربة والأنهار، ما يهدد سلامة المياه الجوفية ومصادر الري والزراعة. كما أن النفايات الناتجة عن النزوح الداخلي وإيواء آلاف العائلات في مناطق غير مهيأة سكنيًا، ضمن ظروف طارئة تفتقر إلى البنية الأساسية، شكّلت عبئًا إضافيًا على البيئة الطبيعية، وأدت إلى تدهور جودة الهواء والمياه وزيادة خطر الأمراض البيئية والمعدية، في ظل غياب القدرة المؤسسية على الاستجابة للأزمات المناخية والإنسانية في آن.
التغير المناخي: أزمة عالمية... بوجه لبناني
في خضم هذا الدمار، يزحف التغير المناخي ليضيف طبقة جديدة من التعقيد. فلبنان يشهد ارتفاعا ملحوظًا في درجات الحرارة، وتراجعا في نسب الهطول المطري، وتزايدًا في وتيرة الجفاف وحرائق الغابات. وتشير الدراسات إلى أن لبنان فقد مساحات خضراء شاسعة، إما بسبب الحرائق المتكررة أو التوسع العمراني العشوائي. أما الزراعة، التي كانت مصدر رزق رئيسي، فأصبحت اليوم تحت رحمة مناخ قاسٍ ومصادر مياه متراجعة.
ورغم أن لبنان لا يساهم بأكثر من 0.03% من الانبعاثات الكربونية عالميا، إلا أنه يُصنّف ضمن أكثر المناطق هشاشةً وتأثرا. هذه المفارقة تجسد مفهوم 'اللاعدالة المناخية'، حيث تدفع الدول الأقل تسببًا في المشكلة الثمن الأكبر.
وتشير تحليلات وكالة الفضاء الأميركية NASA والبنك الدولي إلى أن لبنان يشهد احترارا أسرع من المتوسط العالمي، إذ ارتفعت درجات الحرارة بأكثر من 1.5 إلى 2 درجة مئوية منذ منتصف القرن العشرين، مقارنة بـ1.1 درجة عالميًا، وقد تصل إلى 4 درجات بحلول نهاية القرن إذا لم تُتخذ إجراءات عاجلة.
من جهة أخرى، تُظهر النماذج المناخية الإقليمية انخفاضا متوقعا في كمية الأمطار بنسبة تصل إلى 30%، مع تغيّر في توقيتها، ما يزيد من خطر الفيضانات ويضعف تغذية المياه الجوفية. وتنعكس هذه التغيرات سلبًا على كافة القطاعات: من أزمة شح المياه وتأثيرها على الأمن الغذائي، إلى انخفاض الإنتاجية الزراعية، وزيادة انتشار الأمراض المنقولة بالماء والغذاء، خصوصًا لدى الأطفال وكبار السن. كما تتعرض السواحل اللبنانية لتهديدات متصاعدة بفعل ارتفاع مستوى سطح البحر وازدياد حرارة المياه، مما يضر بالتنوع البيولوجي ويؤثر على الاقتصاد الساحلي.
أمن بيئي وغذائي على المحك
تتجلى آثار التغير المناخي في لبنان، من خلال الجفاف المزمن وتراجع منسوب بحيرة القرعون، وتزايد حرائق الغابات في الشوف والجنوب وعكار، بفعل صيف طويل وغياب أنظمة الإنذار المبكر. ويواجه القطاع الزراعي خسائر كبيرة نتيجة تغير المواسم وندرة المياه، ما أثر على محاصيل أساسية كالزيتون والعنب. ومع غياب السياسات البيئية الفعالة، يتفاقم الخطر على الأمن الغذائي والمائي معًا.
ولأن البيئة لا تعرف الحدود ولا تعترف بالاختصاصات، فإن مواجهتها تتطلب إرادة سياسية حقيقية وتعاونًا وطنيًا ودوليًا، وخططًا شاملة تدمج الأمن البيئي ضمن أولويات السياسات العامة. في النهاية، لا يمكن بناء وطنٍ سليم فوق أرض مريضة، ولا تحقيق عدالة اجتماعية دون عدالة بيئية. فإما أن نواجه هذه الأزمة الآن، أو ندفع ثمن صمتنا لاحقًا... بثمنٍ باهظ لا يُحتمل.