اخبار لبنان
موقع كل يوم -المرده
نشر بتاريخ: ٣ تشرين الأول ٢٠٢٥
كتب السيد شبل في 'الميادين'
في آخر أيام شهر أيلول، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب خطة موسعة للتعامل مع قطاع غزة، وُصفت بأنها محاولة لإنهاء النزاع المستمر بين 'إسرائيل' وفصائل المقاومة الفلسطينية، وفي مقدمتها حركة حماس، إضافة إلى تحسين الوضع الإنساني في القطاع.
على الورق، قدّمت الخطة سلسلة من الإجراءات التي تهدف إلى وقف الحرب، وإعادة الإعمار، وإدارة فلسطينية مؤقتة للقطاع، لكن قراءة متأنية للموقف تكشف أن الخطة لم تكن أكثر من فخ سياسي مُتقن يخدم أهدافاً إسرائيلية محددة، ويضع المقاومة في موقف حرج أمام العالم والرأي العام الداخلي، خاصة بعد ارتفاع الأصوات الفلسطينية التي تنادي بوقف الحرب بأي ثمن.
الخطة وأهم محاورها
قُدّمت خطة ترامب على أنها محاولة لإنهاء حالة الحرب المأساوية المستمرة منذ نحو عامين، والتي أدت إلى استشهاد عشرات الآلاف من أبناء قطاع غزة، وتنصّ على وقف جميع العمليات العسكرية فور قبول الخطة، مع انسحاب تدريجي للقوات الإسرائيلية من المناطق المأهولة في القطاع، بالتزامن مع نزع سلاح المقاومة.
وكمحاولة لتعزيز موقف بنيامين نتنياهو أمام الرأي العام الإسرائيلي، شدّدت الخطة على ضرورة إطلاق سراح جميع الأسرى الإسرائيليين، أحياءً وأمواتاً، مقابل إطلاق سراح عدد محدود من الأسرى الفلسطينيين، من جانب آخر قدّمت الخطة حوافز لأعضاء حركة حماس الذين يوافقون على نزع السلاح، بما في ذلك توفير ممرات آمنة في حال رغبتهم بمغادرة غزة، وهو ما يعكس محاولة إسرائيلية لتفكيك القدرة العسكرية للحركة وإضعاف حضورها داخل القطاع.
إضافة إلى ذلك، دعت الخطة إلى اتخاذ خطوات عاجلة لإعادة إعمار القطاع، بما يشمل شبكات المياه والكهرباء والمستشفيات، غير أن مراقبين أشاروا إلى أن عمليات الإعمار ستكون مشروطة بالامتثال الكامل للشروط الإسرائيلية وبالمراقبة الدولية، ما يُقلّل من استقلالية الفلسطينيين في إدارة شؤونهم، خاصة وأن المجموعة الدولية التي ستتخذ القرارات المصيرية بشأن القطاع ستتكوّن من شخصيات مثل دونالد ترامب، ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، ورجل الأعمال اليهودي الأميركي مارك روان، الذين سيترأسون ما سُمي بـ'لجنة السلام'، والتي ستكون لها الكلمة العليا، فيما تتولّى إدارة انتقالية تكنوقراطية فلسطينية تسيير الأمور الإدارية في القطاع.
على المستوى الاقتصادي، تم الإعلان عن برنامج اقتصادي جاذب للاستثمارات، بإشراف خبراء شاركوا سابقاً في مشاريع بناء 'مدن حديثة' بالشرق الأوسط، إلى جانب إنشاء منطقة اقتصادية خاصة تتمتع بامتيازات جمركية وحوافز استثمارية، لكنها مقترنة بالسيطرة الإسرائيلية المستمرة على الحدود والممرات الرئيسية.
وفيما يتعلق بملف الهجرة، فلن يُجبر سكان القطاع على مغادرته مع منحهم حرية الخروج والعودة.
جميع هذه الإجراءات ستأتي في إطار جهد أمني، سيُشرف عليه مراقبون مستقلون يضمن تحويل غزة إلى منطقة منزوعة السلاح و 'لا تشكل تهديداً لجرانها'، مع ضمان موافقة حماس والفصائل الأخرى على ألّا يكون لها أي دور مطلقاً في حكم غزة، وتدمير جميع البنى التحتية العسكرية، بما في ذلك الأنفاق ومنشآت إنتاج الأسلحة.
الجرائم الإسرائيلية والضغط على غزة
لا يمكن الحديث عن خطة ترامب بمعزل عن الجرائم الإسرائيلية ضد قطاع غزة، والمستمرة في إطار تصاعدي، منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، فمع كل صباح يُعلَن عن سقوط عشرات الشهداء، ويُرغم آلاف الفلسطينيين على النزوح من أماكن سكنهم، وتتوسع عمليات التدمير الممنهج لصور الحياة كافة داخل القطاع. هذه الظروف المأسوية جعلت من غزة مسرحاً دائماً للأزمات الإنسانية، وقد جاء إعلان خطة ترامب في وقت كان فيه الضغط الدولي على 'إسرائيل' يتزايد نتيجة لتلك المجازر.
مع ذلك، كانت الخطة تصب في مصلحة الحفاظ على الهيمنة الإسرائيلية على القطاع، إذ صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من واشنطن، بعد وقت قصير من إعلان الخطة، أن 'القوات الإسرائيلية ستبقى في أغلب قطاع غزة، وأنه لم يقبل بإقامة دولة فلسطينية، وأن الخطة قلبت الطاولة على حركة حماس، والآن يضغط العالم عليها لقبول الشروط التي وضعناها، ألا وهي إطلاق سراح جميع الرهائن، مع بقاء الجيش الإسرائيلي'.
من هنا يظهر بوضوح أن جانب الإعمار الإنساني والسياسي في الخطة مرتبط بشروط إسرائيلية صارمة، تشمل نزع السلاح ومنع حرية الحركة والإدارة المستقلة للفلسطينيين.
موقف اليمين المتطرف الإسرائيلي
اليمين الإسرائيلي، بقيادة شخصيات مثل بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، يتبنى موقفاً متشدداً تجاه غزة وحماس، فهؤلاء يدعمون التحكم الكامل في قطاع غزة، ونزع السلاح بشكل صارم، وتحريض الفلسطينيين على الهجرة من أراضيهم، ويرون أي تنازل تهديداً للأمن القومي الإسرائيلي، ويرقى إلى مرتبة 'الخيانة'.
في المقابل، يُظهر نتنياهو موقفاً براغماتياً، إذ يدعم خطة ترامب أمام عدسات المصورين، بينما يُشدد في تصريحات تالية على الاحتفاظ بالقوات الإسرائيلية داخل القطاع، وذلك كنوع من النفاق السياسي، فمن جهة، يسعى إلى إرضاء المجتمع الدولي وإظهار 'إسرائيل' كطرف يسعى للحل السياسي، ومن جهة أخرى، يواصل العمل على تحقيق طموحات اليمين الإسرائيلي التوسعية، والهادفة إلى إنهاء وجود الفلسطينيين تماماً داخل ما تبقى من أراضيهم، مع الهيمنة العسكرية والسياسية على منطقة الشرق الأوسط بأسرها.
الهدف الحقيقي: حماس أمام العالم
أبرز الأهداف الخفية لخطة دونالد ترامب، هو إظهار حركات المقاومة كأنها الطرف الذي يعيق تحقيق السلام أمام الرأي العام الدولي، فنتنياهو وحلفاؤه يريدون أن تصبح الحركة الفلسطينية هي الطرف الذي يبدو رافضاً لأي تسوية أو وقف لإراقة الدماء، وهو ما يؤدي إلى:
أولاً: تزايُد الضغوط الدولية والعربية على حركة حماس وفصائل المقاومة الأخرى، وبهذا يتغيّر المشهد برمته، وبدلاً من أن يكون الضغط باتجاه الاحتلال، تُصبح المقاومة هي الطرف المُحاصر سياسياً، والمُطالب بتقديم التنازلات.
ثانياً: تراجُع الدعم الشعبي للمقاومة بين الفلسطينيين، إذ إن الظروف المأسوية التي يعيشها سكان غزة تدفعهم إلى المطالبة بوقف الحرب مهما كان حجم التنازلات المطلوبة، وفي حال رفضت قيادة المقاومة خطة ترامب التي تُعتبر مُذعنة للشروط الإسرائيلية، سيظهر ذلك أمام قطاعات واسعة من الرأي العام المحلي، وكأن المقاومة غير معنية بمصالح شعبها، وغير ملتزمة بوقف نزيف الدماء الذي يتواصل يومياً في القطاع.
ثالثاً: تبرير استمرار المجازر والوجود العسكري الإسرائيلي في غزة، وهو ما أشار إليه ترامب بوضوح، حين قال إنّ 'إسرائيل' ستحظى بدعمه الكامل لإنهاء مهمتها العسكرية في حال رفضت حماس الخطة، علماً بأن المُدّة الممنوحة للحركة كي تناقش البنود وتردّ عليها ضيقة للغاية. وهو ما يوحي بأن ترامب ونتنياهو قد أعدّا الخطة على النحو الذي يدفع فصائل المقاومة إلى رفضها، حتى يكون ذلك مبرراً للتصعيد الإجرامي الإسرائيلي.
وبذلك، تصبح الخطة أداة سياسية مزدوجة: تُقدّم مظهر الحل والتعاون الدولي، لكنها في الواقع تعزز النفوذ الإسرائيلي وتضع حماس في موقف ضعيف أخلاقياً وسياسياً.
السياق الدولي والدعم لفكرة الدولة الفلسطينية
في الفترة الأخيرة، شهد العديد من الدول دعماً متزايداً لفكرة إقامة دولة فلسطينية مستقلة، سواء عبر اعترافات رسمية أم من خلال مؤسسات دولية مثل الأمم المتحدة. هذا الدعم يشكل تهديداً لاستراتيجية 'إسرائيل'، خصوصًا للتيار اليميني الذي يسعى للحفاظ على مصالح الدولة من دون تقديم تنازلات حقيقية للفلسطينيين.
خطة ترامب إذاً تأتي كوسيلة لإضعاف الدعم الدولي الممنوح للفلسطينيين، وكسر العزلة الإسرائيلية، وتحويل الجلّاد إلى ضحية والعكس؛ فالفصائل الفلسطينية في غزة باتت عملياً أمام خيارين قاسيين، فإما الاستسلام الكامل للشروط الإسرائيلية، أو أنها ستظهر أمام العالم وأبناء غزة كـ'طرف عنيد، غير عقلاني، لا يتمتع بالمسؤولية الكافية، ويرفض الحل والسلام'،
الحقيقة وراء المظاهر
خطة ترامب لقطاع غزة، رغم تغليفها بعبارات السلام والإعمار، ليست سوى فخ سياسي يخدم أهداف 'إسرائيل' الاستراتيجية، فهي تُعطي مظهر الحل الشامل للقطاع، لكنها في الواقع تهدف إلى:
– الحفاظ على السيطرة العسكرية والأمنية الإسرائيلية في غزة.
– إضعاف موقف حماس دولياً ومحلياً، وإظهارها كالعائق أمام السلام.
– تقديم حل شكلي يُخفف الضغط الدولي على 'إسرائيل' من دون المساس بسيطرتها الفعلية.
– تعزيز الوجود الأميركي في منطقة الشرق الأوسط عبر الإشراف المباشر على قطاع غزة وبرنامج التنمية الاقتصادية
بإيجاز، ما يُقدّم على أنه خطة إنسانية وسياسية، يظهر في جوهره كأداة لحكومة نتنياهو لتعزيز نفوذها وشرعنة وجودها العسكري المستمر في غزة، وفي المقابل تُدفع المقاومة إلى موقف صعب أخلاقياً وسياسياً أمام المجتمع الدولي، لكن الرهان يبقى على قدرة الأجنحة العسكرية للفصائل الفلسطينية على إدارة الأزمة بثبات وذكاء، لضمان تجاوز هذا الاختبار من دون أن يحقق الجانب الإسرائيلي أي مكاسب.