اخبار لبنان
موقع كل يوم -أي أم ليبانون
نشر بتاريخ: ٣٠ تموز ٢٠٢٥
كتب داود رمال في 'نداء الوطن':
تحمل العلاقات اللبنانية الجزائرية بعدًا تاريخيًا لا يمكن فصله عن السياق العربي العام لحركات التحرر الوطني، والتحولات السياسية والاجتماعية في كل من المشرق والمغرب العربي. فمنذ اندلاع الثورة الجزائرية في الأول من تشرين الثاني 1954، كانت بيروت، العاصمة الثقافية والفكرية للعالم العربي، من أبرز المنابر التي احتضنت صوت المقاومة الجزائرية. وقد لعبت الصحافة اللبنانية، مثل جريدة 'النهار' و'الحياة'، دورًا محوريًا في نشر أخبار الثورة والترويج لمطالب الاستقلال، كما احتضنت بيروت العديد من الشخصيات الجزائرية السياسية والثقافية، حتى أصبحت ملتقى للأحرار العرب.
بعد استقلال الجزائر عام 1962، أُرسيت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين على قاعدة التقدير المتبادل، وبدأت مرحلة من التعاون الثنائي، خاصة في الأطر العربية، من خلال جامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، وحركة عدم الانحياز. وقد حافظ البلدان على سياسة خارجية متوازنة تجاه الأزمات الإقليمية، كما عبّرت الجزائر في عدة مناسبات عن تضامنها مع لبنان لا سيما في جهود إنهاء الحرب اللبنانية (الأخضر الإبراهيمي شاهد حي). من جهة أخرى، اتسمت العلاقات الاقتصادية والثقافية بين البلدين بطابع متواضع وغير متناسب مع عمق العلاقات السياسية. ووفق إحصاءات وزارة الاقتصاد اللبنانية ومركز التجارة الدولية (ITC)، فإن حجم التبادل التجاري بين لبنان والجزائر ظلّ ضعيفًا ولم يتجاوز بضع عشرات من ملايين الدولارات سنويًا، مع ميل الميزان التجاري لصالح الجزائر، خصوصًا في صادرات المحروقات ومشتقاتها.
وتأتي زيارة رئيس الجمهورية اللبنانية العماد جوزاف عون إلى الجزائر والتي بدأها أمس ويختتمها اليوم، في لحظة مفصلية يمر بها لبنان، حيث يعيش أزمة اقتصادية خانقة منذ عام 2019، جعلت أكثر من 80 % من السكان تحت خط الفقر بحسب تقارير البنك الدولي، إلى جانب انهيار مؤسسات الدولة وقطاعات حيوية مثل الكهرباء، التعليم، الصحة والمصارف(..). وفي ظل هذا الواقع، تشكّل الجزائر دولة عربية يمكن أن تلعب دورًا فعّالًا في مساعدة لبنان، سواء في إطار ثنائي مباشر، أو عبر آليات التعاون العربي المشترك. وتمتلك الجزائر احتياطيات ضخمة من الغاز الطبيعي (تقدر بنحو 4.5 تريليون متر مكعب)، وهي ثالث أكبر مصدر للغاز في المنطقة بعد قطر وإيران، ما يجعلها شريكًا مثاليًا للبنان في معالجة أزمة الكهرباء المزمنة. فوفق خطة الطوارئ التي وضعتها وزارة الطاقة اللبنانية، فإن لبنان يحتاج إلى نحو 3,000 ميغاواط من الكهرباء لتغطية حاجاته. وقد عبّرت الجزائر سابقًا عن استعدادها لدراسة تزويد لبنان بالفيول أو الغاز بأسعار مدروسة أو ضمن تسهيلات دفع، خصوصًا في إطار اتفاقيات تضامن عربي شاملة.
على صعيد آخر، يُمكن للجزائر أن تقدم للبنان الدعم في مجال الصحة، حيث تُعدّ المنظومة الصحية الجزائرية واحدة من أكثر النظم الطبية تطورًا في شمال أفريقيا من حيث عدد المستشفيات الجامعية ومراكز الأبحاث الطبية. أما في التعليم، فتملك الجزائر شبكة واسعة من الجامعات ومراكز التعليم العالي، وهي مستعدة لتعزيز التعاون الأكاديمي من خلال التبادل الطلابي والمنح الدراسية، خاصة وأن عددًا من الطلاب اللبنانيين يتابعون دراستهم في جامعات الجزائر، لا سيما في مجالات الهندسة والطب والعلوم الاجتماعية، ضمن اتفاقيات تعاون علمي تمتد منذ الثمانينات. وفي المجال العسكري والأمني، لطالما تبادلت بيروت والجزائر الخبرات والمعلومات، لا سيما في مجالات مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة. وقد عانت الجزائر من تجربة مريرة في 'العشرية السوداء' خلال التسعينات، واستفادت قواتها المسلحة من تحديثات أمنية وتكنولوجية تجعلها مؤهلة لتقديم دعم تدريبي ولوجستي للجيش اللبناني في مجالات الحرب غير التقليدية، والتعامل مع المجموعات الإرهابية.
سياسيًّا، تحتفظ الجزائر بثقلها العربي والإقليمي كدولة ذات موقف مستقل، وقد تجلّى ذلك في استضافتها للقمة العربية في تشرين الثاني 2022، حيث دعت إلى إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية وإلى دعم لبنان في مواجهة التحديات الاقتصادية والسيادية. وفي سياق المحافل الدولية، لطالما صوتت الجزائر لصالح القرارات التي تدعم لبنان في مجلس حقوق الإنسان والجمعية العامة للأمم المتحدة، وكانت من الدول القليلة التي لم تنخرط في الاستقطاب السياسي اللبناني الداخلي، ما يجعلها وسيطًا نزيهًا في حال تطلبت المرحلة مبادرات لحل الأزمات المستعصية.
انطلاقًا من ذلك، تشكّل زيارة الرئيس عون إلى الجزائر فرصة لإعادة بناء علاقة استراتيجية تقوم على المصالح المشتركة لا على العواطف فقط. ويحتاج لبنان في هذه المرحلة الدقيقة إلى دول صديقة صادقة، تُقدّر موقعه التاريخي، وتملك الإرادة والقدرة على مساعدته من دون شروط سياسية أو رهانات إقليمية. والجزائر، بتاريخها النضالي، وثرواتها، وتجربتها السياسية المستقلة، تُعدّ من الدول القليلة التي تستطيع أن تلعب هذا الدور، إن حظيت العلاقة بين البلدين بالمتابعة الحثيثة والتخطيط الاستراتيجي.