اخبار لبنان
موقع كل يوم -المرده
نشر بتاريخ: ٢٩ تموز ٢٠٢٥
'أنا الأم الحزينة'، وصوت فيروز يصعد بنا إلى أعتاب السماوات، تُنشد للوجع المقدّس، ولدمع أمٍّ تراقب الدنيا تخذل ابنها. وخمارها الأسود يُغطّي رأسها، ومن نظّارتها السوداء ترى الأرض وقد استحالت رماداً. والصمت الأنيق يلفّ ذلك الوجه التسعينيّ الأبيض، وتعزيات الأرض استحالت مرارةً.
قبل ثلاثة وستّين عاماً، خرجت من بيروت إلى العالم أربعة أناشيد للحزن بصوت فيروز، محفورة على أسطوانة 45 لفّة باسم 'الجمعة الحزينة'. أنشدت الصبيّة مراثي آلام المسيح بأربعة عناوين، أوّلها 'أنا الأمّ الحزينة' التي التصقت مذاك باسمها، وآخرها 'يا شعبي وصحبي'، وبينهما 'قامت مريم' و'طرق أورشليم'. ومنذ صدور الأسطوانة عن 'صوت الشرق'، صارت السيدة ملازمةً للجمعة العظيمة (أو جمعة الآلام)، وصار للحزن صوت، والحزن حزن الأم، واسمه فيروز.
كم من مرّة لامس صوتها جرح مريم! كم من مرّة وقفت فيروز على حافة غياب، على حافة وداع! ألم تكفِها فصول من التراجيديا حتى صار الوجع مرادفاً لها؟ أمس، شاهد العالم فيروز الأمّ تُشيّع ابنها. شاهدنا نهاد حداد، وقد التزمت وقارها الفيروزي واتّشحت بصمتها النبيل، تقف بخشوع الأم المكسورة.
وفيروز رنّمت حزن العذراء وانكسار قلبها على طريق الآلام في القدس، وسارت مع البابا بولس السادس في كانون الثاني/يناير 1964. و'أنا الأم الحزينة' صارت نشيدها. وأسطوانة الـ45 لفّة صارت أكبر، وضمّت عشر تراتيل، تنتهي بأهازيج الفرح والانتصار على الموت، علامة رجاء طبع المشهد الفيروزي. ومذاك صار إنشاد فيروز في الجمعة العظيمة تقليداً سنويّاً.
كنّا نسمعها تندب المصلوب، وكأنها تسبق الفقد. وها هي السيّدة التي ترنّمت بأوجاع الأمّ تقتبل كأس الموت مجدّداً، وزياد يرحل نحو أبيه وأخته. وزياد خالف صلاتها أن 'يسمح لها أن تموت قبله'، ورحل وحيداً، مردّداً كلماته: 'انتظريني وضلّك صلّي'. وهي وقفت بوقارها وصمتها الأنيق، وسلّمت بالغياب.
ما أصعب أن يذبل الصوت في حلق فيروز! هي التي رنّمت الحزن صلاةً، صارت صلواتنا اليوم لها. ننحني أمام وجع الأم، أمام دمعة فيروز التي لم تشأ أن نراها. سلام عليها، على قلبها المعلّق بين الأرض والسماء، وعلى وجع الأمّ المقدّس، الذي صار نشيداً بصوتها، وصار صمتاً.