موقف تاريخي وقرار استراتيجي لرئيس الجمهورية

كتب ناصر قنديل في 'البناء'

يثبت موقف رئيس الجمهورية العماد جوزف عون بتوجيه قائد الجيش العماد رودولف هيكل بالتصدي لعمليات توغل قوات الاحتلال والدفاع عن الأراضي اللبنانية والمواطنين اللبنانيين، أنه لم يكن بعيداً في رؤيته عن هذا الخيار، في السياسات التي اعتمدها خلال أحد عشر شهراً من إعلان اتفاق وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني منها ثلاثة شهور كان فيها قائداً للجيش وثمانية شهور من الرئاسة، بل كان يمنح الفرص لنجاح المساعي الدبلوماسية خصوصاً الاستجابة الأميركية للمناشدات اللبنانية بممارسة الضغط على الاحتلال لوقف اعتداءاته وتنفيذ واجباته المنصوص عليها في الاتفاق والقرار 1701، كترجمة للضمانة الأميركية لتنفيذ هذه الموجبات بموجب الرعاية الأميركية للاتفاق.

في حوار سابق قبل سبعة شهور مع صحيفة الشرق الأوسط كانت مقدّمات القرار التاريخي الذي اتخذه رئيس الجمهورية بتحمل الجيش مسؤولية الرد على الاعتداءات الإسرائيلية، حيث وضع فرضية فشل الحلول الدبلوماسية، وبناء على ذلك وضع فرضية الحاجة إلى خيار القوة، وقال إن الجيش سوف يتحمّل مسؤولية هذا الخيار، فقال: “نحن نتمنى أن ننتهي من النزاعات العسكرية، وننهي كل مشاكلنا بالجهود الدبلوماسية، ولكن دائماً نحن – العسكريين – نحسب دائماً حساب الأسوأ. وفي حال كان الأسوأ النزاع العسكري، يكون على الدولة، ومهمتها هي القرار”، وأضاف أن هذه “مهمة الدولة أولاً، وهي صاحبة القرار يجب أن تكون. وإذا الدولة احتاجت ووجدت أن هناك ضرورة للاستعانة بالآخرين بشعبها، فهي تتخذ القرار”.

يعلم الرئيس ما لم ينتبه له الذين تحدّثوا عن الحاجة لقرار من مجلس الوزراء، لأنهم يتجاهلون أو يجهلون أن قرار تكليف الجيش بحفظ الأمن في منطقة الجنوب هو تفويض دائم للتصدي للاعتداءات، وأن تكليف الجيش تطبيق القرار 1701 واتفاق وقف إطلاق النار يتضمن تفويضه بممارسة حق الدفاع المنصوص عليه في الاتفاق، وهو الحق الذي يستعمله الاحتلال للعدوان، وكان الجيش يتريث بممارسته منحاً لمزيد من الوقت أمام المساعي الدبلوماسية، والقيمة المعنوية والاعتبارية لموقف رئيس الجمهورية أنها تعلن التوقيت لبدء ممارسة حق الدفاع من قبل الجيش، وتمنح الجيش الغطاء المعنوي والاعتباري لمكانة ومقام الرئاسة داخلياً وخارجياً، وهذا لا يمنع ان يواكب مجلس الوزراء ذلك بمنح المزيد من الدعم السياسي والمعنوي للجيش، ولا مانع من انعقاد المجلس الأعلى للدفاع لجعل القرار أكثر قوة سياسياً ومعنوياً، لكن قانونياً يمكن للجيش ترجمة القرار دون الحاجة إلى تكليف إضافي.

موقف رئيس الجمهورية تاريخي لأنه يفتح الباب لمرحلة جديدة في تاريخ لبنان، في زمن التغوّل الإسرائيلي، حيث لا دولة عربية أخرى تكلف جيشها التصدّي للاعتداءات الإسرائيلية، وقد تعرّضت دولة قطر قبل شهور قليلة لعدوان إسرائيلي موصوف، والكل يكتفي بالعمل الدبلوماسي بذريعة اختلال ميزان القوى، لكن يأتي رئيس بلد عربي صغير من خلفية عسكرية احترافية ويقول للجميع إن موازين القوى لا تقاس فقط بالطائرات والدبابات والقدرات النارية والاستخبارية، بل إن الجيش المدعوم من شعبه ودولته قادر على إحباط الخطط الإسرائيلية، وقد سبق للبنان عام 1972 في يومي 16 و17 أيلول أن شهد معارك بطولية لجيشه في مواجهة عدوان إسرائيلي وصل إلى مشارف مدينة صور، ونجح الجيش بالتصدّي ببسالة للعدوان ونجح بإحباط أهدافه وأجبر قوات الاحتلال على الانسحاب.

الأكيد أن الجيش اللبناني سوف يجد كل شعبه معه، وسوف يجد أبناء الجنوب المقاومين بانتظاره ليكتبوا معه ملحمة بطولية تجمع بين قدرات المقاومة في الحرب البرية، والقوة السياسية التي يمثلها وجود الجيش في الخط الأمامي للمواجهة مع الاحتلال، وروح البطولة لدى الجيش والشعب والمقاومة، لعلها الفرصة التي سوف تظهر ما يبحث عنه اللبنانيّون منذ سنوات من استراتيجية وطنية للدفاع، وربما يكون على الاحتلال إذا فكر بعقلانية أن يتفادى مثل هذه المواجهة، لأن مجرد حدوثها يسقط كل السردية التي يبني عليها الاحتلال حربه على لبنان باعتبارها حرباً مع حزب الله كامتداد إيراني يؤذي لبنان الشعب والدولة، فماذا سوف يقول عندما يكون وجهاً لوجه مع الجيش اللبناني، لكن يبدو أن غطرسة الاحتلال وعنصريته وعنجهيته تعمي أبصار قادته وتجعل هذه المواجهة احتمالاً مرجحاً، وهذا يوجب على كل اللبنانيين أن يضعوا جانباً خلافاتهم وانقساماتهم ليقفوا خلف جيشهم ودولتهم، فتخرج أصوات المرجعيات السياسية والروحية والنقابية والثقافية والإعلامية تعلن مباركة القرار والتوحّد خلف الجيش، لأن الإجماع الوطني هنا سلاح لا يقل أهمية عن قرار الرئيس وعن ما سوف يقوم به الجيش.