اخبار لبنان
موقع كل يوم -جريدة اللواء
نشر بتاريخ: ١٩ أيلول ٢٠٢٥
تقف لوحة الفنان المصري «حسن فيداوي» على الحد الفاصل بين الأيقونية المقدّسة والملمح الكاريكاتيري، حيث يستحضر الفنان صورة السيدة فيروز بوصفها أكثر من مطربة، بل رمزاً روحياً، أيقونة لبنانية وعربية، تحضر في الخيال الجمعي كصوت الصباح وذاكرة الأمل. فالمعالجة البصرية المستحدثة في فنه الذي لا يعتمد على الإضحاك وإنما يتجاوز ذلك إلى تضخيم المعنى وتكثيف الرسالة التي يوجهها للمتلقي عن السيدة العظيمة فيروز وتوجيه ضوء صارخ نحو ما يحاول الواقع أن يخفيه. ما يميّز الفن الكاريكاتيري عند حسن فيداوي هو الصرخة التي يوجهها للمتلقي وكأنه يريد القول أنظر هذا هو الواقع الذي لا تريد أن تراه أو صحّح الواقع المغلوط الذي تراه فريشته تتميّز في جوهرها أنها تمسك بالمعنى المضغوط ولا تمسك بالمساحة للإطناب فعلى الصورة أن تمسك بلحظة التقطها حسّياً خلسة عن انتباه من رسمه أو ما يشعر به فعلياً نحو الشخص الذي يرسمه، وبالأحرى ما يرسخ في ذهنه طويلاً لذلك في رسوماته الكثير من الرموز والتضاد والمفارقات البصرية. فالهدف في رسوماته هو الإيلام أو التحريض على التفكير. فهل في عالم طغت فيه الصورة على الكلمات أصبح الكاريكاتير مرآة حقيقية للوعي الجمعي؟ أم مجرد صدى مؤقت لحدث عابر؟ وهل المبالغة في الملامح تقوي الحضور الرمزي للشخصية أم تضعفه؟
في لوحته فيروز الوجه مرسوم بملامح مبالغ فيها عيون واسعة، أنف طويل، وفم متوتر، وكأن الفنان يتقصّد إخراجها من معايير الجمال الكلاسيكي ليؤكد أن قداسة الرمز لا تأتي من الجسد بل من الروح والصوت. والهالة الذهبية خلف الرأس، المأخوذة من التقاليد المسيحية البيزنطية، تعطي اللوحة طابعاً أيقونياً؛ فهي تُشبه صور القديسين. هنا تتحوّل فيروز إلى قديسة الفن، حاملةً بريقاً يعلو على التفاصيل البشرية. كما هي الحال مع الثوب الأزرق البسيط الذي يعزز من روح النقاء والتجرد، وكأنها راهبة في محراب الموسيقى. فاللوحة لا تسعى إلى تقديم صورة واقعية لفيروز، بل إلى تكثيف صورتها الرمزية في الوعي الجمعي. فالمبالغة في الملامح هي رمز للخلود الفني، فالأيقونات لا تُرسم كما هي، بل كما تُتذكَّر. والهالة هي قداسة الصوت الذي وحّد الناس رغم اختلافاتهم. والنظرة الشاردة هي استحضار للبُعد الحالم في أغنياتها التي تتأرجح بين الحنين والفقدان. ففيداوي يدمج لغة الكاريكاتير (المبالغة والتشويه الجمالي) مع لغة الأيقونات (الهالة، القداسة، التبسيط)، ليخلق مزيجاً فريداً ففيروز في رسوماته ليست مجرد مطربة بل أيقونة زمنية، تجمع بين البساطة الإنسانية والسمو الرمزي. كما يطرح الفنان حسن فيداوي سؤالًا عميقاً هو كيف نُخلِّد رموزنا؟ هل نرسمهم كما هم، أم كما يسكنون أرواحنا؟
كل حقبة زمنية تحمل في جعبتها أساليب فنية تعبّر عن روحها، والكاريكاتير ليس استثناءً. ففي بعض الفترات، نجد الخطوط حادّة ومتمردّة، تعكس التوترات السياسية والاجتماعية، وفي أحيان أخرى تظهر ناعمة ومتدرجة، تنقل تفاصيل دقيقة من الثقافة وتفاصيل الحياة المهمة جدا. وهكذا يتحول الكاريكاتير إلى سجل بصري حي، يروي قصة الأمة من خلال رموز وأشكال مبسطة لكنها غنية بالدلالات. لكن عندما نعود إلى تاريخ منطقتنا، نجد أن الكاريكاتير كان وسيلة قوية للتعبير عن التحديات الوطنية، والشكوك، والطموحات التي شكّلت وجدان المجتمع. من خلال شخصيات سياسية ورموز ثقافية، استطاع الرسامون المحليون أن يلتقطوا لحظات فاصلة، ينقلون فيها نبض الناس ومواقفهم بجرأة وحس فني راقٍ.
ومن المدهش كيف أن أساليب الرسم تختلف في أعمال الفنان حسن فيداوي لكنها تتوحّد في القدرة على التأثير؛ ففي بعض الرسوم تبرز التفاصيل الدقيقة للوجه والجسد لتعكس شخصية القائد أو الحدث، بينما في أخرى يلعب الظل والضوء دور البطولة، ليخلق أجواء مشحونة بالدلالات العميقة.
يقدّم فيداوي فيروز ككائن يتجاوز حدود الصورة الجسدية ليصبح رمزاً يتداخل فيه الفن بالدين، الصوت بالقداسة، والذاكرة بالروح. وكأن عيونها نوافذ تطلّ على أروحنا نحن، لا على وجهها هي والفم المشدود لا يبتسم لا يغني بل ينتظر لحظة الانبعاث، فلوحة السيدة فيروز ليست بورتريه تقليدياً، بل أيقونة حداثية؛ فيها من السخرية قدر ما فيها من التبجيل، وفيها من المبالغة قدر ما فيها من الصدق. إنها لوحة تقول إن فيروز أكبر من ملامحها، إنها ذاكرة شعب، قديسة الفن التي ما زال صوتها يتردّد كصلاة في صباحات الناس. إذ ليست هذه صورة السيدة فيروز بل المرأة العظيمة التي تسكن في خيال الملايين. الكاريكاتير هنا لا يسخر منها بل ينتزعها من قدسية الجمال الجسدي ليثبتها في قداسة الصوت، وكأنه يقول مرة أخرى: «الجمال ليس في تناظر الملامح، بل في اختلال الروح لصالح النغمة». فهل يمكن للكاريكاتير أن يخلق جمالاً خارج الجمال التقليدي؟ وهل ريشة حسن فداوي قادرة على تجسيد ما لا يُرى؟